للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ إِلَّا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ تَدُلُّ عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَأْمُرُ بِهَا, وَتُحَذِّرُ مِنْ مَسَاخِطِ اللَّهِ وَتَنْهَى عَنْهَا, وَالْهَوَى بِضِدِّ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ" ١ يَعْنِي: لِمُخَالَفَةِ أَسْبَابِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِلْهَوَى "وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ" ٢ لِمُوَافَقَةِ أَسْبَابِهَا مِنَ الْمَعَاصِي لِلْهَوَى. فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَوَيْلٌ لِمَنْ قَدَّمَ هَوَاهُ عَلَى ذَلِكَ, لَقَدْ هَلَكَ.

قَدْ صَادَهُمْ إِبْلِيسُ فِي فِخَاخِهِ ... بَلْ بَعْضُهُمْ قَدْ صَارَ مِنْ أَفْرَاخِهِ

يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ... بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَبِاللِّسَانِ

"قَدْ صَادَهُمْ" مِنْ الِاصْطِيَادِ بَلْ مِنْ مُطَاوِعِ اصْطَادَ؛ لِأَنَّ التَّاءَ الَّتِي قُلِبَتْ طَاءً هِيَ لِمَعْنَى الطَّلَبِ وَأَمَّا حَذْفُهَا فَيَدُلُّ عَلَى وُصُولِ الطَّالِبِ إِلَى مَطْلُوبِهِ "إِبْلِيسُ فِي فِخَاخِهِ" الَّتِي نَصَبَهَا لَهُمْ كَمَا نَصَبَهَا لِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ تَزْيِينِ الْمَعَاصِي وَتَصْوِيرِهَا فِي صُورَةِ الطَّاعَاتِ, فَأَوَّلُ مَا زَيَّنَ لِقَوْمِ نُوحٍ العكوف على صور صَالِحِيهِمْ لِيَتَذَكَّرُوا عِبَادَتَهُمُ اللَّهَ تَعَالَى فَيَقْتَفُوا أَثَرَهُمْ فِيهَا, وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى عَبَدُوهَا كَمَا قَدَّمْنَا. وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِسُفَهَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلُ مَا أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِبِنَاءِ الْقِبَابِ عَلَى الْقُبُورِ بِاسْمِ مُحِبَّةِ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ بِالْعُكُوفِ عَلَيْهَا وَعِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهَا تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا بِتِلْكَ الْبِقَاعِ الَّتِي فُضِّلَتْ بِهِمْ, إِذْ دُفِنُوا فِيهَا ثُمَّ بِعِبَادَتِهِمْ أَنْفُسِهِمْ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, ثُمَّ اسْتَرْسَلُوا فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أَنْ أَثْبَتُوا لِلْمَخْلُوقِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, فَصَارَ الْأَمْرُ كَمَا تَرَى فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ وَفِي كُلِّ الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ وَفِي كُلِّ زَمَنٍ تَشِيعُ وَتَزِيدُ وَفِي كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ "بَلْ بَعْضُهُمْ قَدْ صَارَ مِنْ أَفْرَاخِهِ" الْمُسَاعِدِينَ لَهُ الدَّاعِينَ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ حِزْبَهُ؛ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ "يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ" مِنَ الْقُبُورِ وَغَيْرِهَا "بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَبِاللِّسَانِ" فَمِنْ دَعَايَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَطَالِبِ وَيُدْخِلُونَهَا الْقَبْرَ إِلَى الْقُبَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهِ فِي سَرَادِيبَ مُعَدَّةٍ تَحْتَهَا فَإِذَا


١، ٢ مسلم "٤/ ٢١٧٤/ ح٢٨٢٣" في صفة الجنة في فاتحته, ورواه البخاري بلفظ: حجبت في الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات "١١/ ٣٢٠" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>