للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اختلافًا جوهريًّا عن الموت الذي هو استسلام سالب لا مفر منه لعوامل الانحلال والسكون. فإذا كان أبو القاسم قد سَمَّى رحلته إلى هذا العالم "تجربة" فهو إنما يضع أيدينا بهذه اللفظة على موقفه من الموت، وبالتالي على موقفه من الحياة.

وقد كانت تجربة الموت تملك بالنسبة للشابي كل ما تملكه التجارب الحيوية من متعة مبهمة وغموض مغر، وفي وسعنا أن نتثبت من هذا بمراجعة قصائده حيث نجده يذكر الموت عندما يتحدث عن الجمال والحياة والشباب والأمل والربيع. ونموذج هذا في قصيدة "تحت الغصون".

فلمن كنتِ تنشدين؟ فقالت:

للضياء البنفسجي الحزين

للشباب السكران، للأمل المعبود،

لليأس، للأسى المنون١

فقد جمع في البيت الثاني الشباب والأمل واليأس والأسى و"الموت" في سياق واحد هو سياق الغناء والسكر بالحياة الكاملة التي لا يتم جمالها في نظر الشابي إلا باجتماع الفرح والألم والحركة والسكون فيها. وهذا هو التفسير لما يلوح غريبًا من أن الشاعر يجعل حبيبته تذكر الموت في اللحظة التي اكتملت فيها سعادتها، ذلك أنه كان يؤمن بأن الحياة العميقة الكاملة لا تصل قمتها من الإدراك والوعي حتى تندغم بالموت، وتفهمه فهمًا جماليًّا خالصًا. وقد كان جزء من جمال حبيبته أنها تشاركه هذا الإيمان، كما كان الاعتقاد عينه هو الذي قوى "بروميثيوس"٢ على احتمال آلامه الجسيمة الرهيبة، ولذلك جعله الشاعر يرى في الموت "ذوبانًا في فجر الجمال".


١ و٢ المصدر السابق.

<<  <   >  >>