للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"أولًا" الحرية البراقة التي تمنحها الأوزان الحرة للشاعر. والحق أنها حرية خطرة. أن الشاعر يلوح معها غير ملزم باتباع طول معين لأشطره، وهو كذلك غير ملزم بأن يحافظ على خطة ثابتة في القافية. فما يكاد يبدأ قصيدته حتى تخلب لبه السهولة التي يتقدم بها، فلا قافية تضايقه ولا عدد معينًا للتفعيلات يقف في سبيله، وإنما هو حر، حر، سكران بالحرية، وهو، في نشوة هذه الحرية، ينسى حتى ما ينبغي ألا ينساه من قواعد، وكأنه يصرخ بآلهة الشعر: "لا نصف حرية أبدا. إما الحرية كلها أو لا! " وهكذا ينطلق الشاعر حتى من قيود الاتزان ووحدة القصيدة وأحكام هيكلها وربط معانيها، فتتحول الحرية إلى فوضى كاملة.

"ثانيًا" الموسيقية التي تمتلكها الأوزان الحرة، فهي تساهم مساهمة كبيرة في تضليل الشاعر عن مهمته. أنها سعلاة الشعر الحر الخفية، وفي ظلها يكتب الشاعر أحيانًا كلامًا غثًّا مفككًا دون أن ينتبه؛ لأن موسيقية الوزن وانسيابه يخدعانه ويخفيان العيوب. ويفوت الشاعر أن هذه الموسيقى ليست موسيقى شعره وإنما هي موسيقى ظاهرية في الوزن نفسه، يزيد تأثيرها أن الأوزان الحرة جديدة في أدبنا ولكل جديد لذة. وعلى هذه الصورة تنقلب موسيقية الأوزان الحرة وبالًا على الشاعر، بدلًا من أن يستخدمها ويسخرها في رفع مستوى القصيدة وتلوينها.

"ثالثًا" التدفق، وهي مزية معقدة تفوق المزيتين السابقتين في التعقيد. وينشأ التدفق عن وحدة التفعيلة في أغلب الأوزان الحرة، فإنما يعتمد الشعر الحر على تكرار تفعيلة ما مرات يختلف عددها من شطر إلى شطر. وهذه الحقيقة تجعل الوزن متدفقًا تدفقًا مستمرًا، كما يتدفق جدول في أرض منحدرة، وهي كذلك مسئولة عن خلوه من الوقفات. والوقفات، كما يعلم الشعراء، شديدة الأهمية في كل وزن، ولا يدرك الشاعر مدى

<<  <   >  >>