للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ولا أعلم أنَّ في القرآن الكريم آية قد صرح فيها بالموصوف فيقال " الحياة الآخرة" أمَّا " الدنيا" فقد جاءت آيات بذكر الموصوف، وأخرى بحذفه.

ويبدو لى أن في قوله " أرضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة" وجهًا تركيبيا آخر قائما على الحذف فيكون التقدير: أرضيتم بالحياة الأولى الدنيا من الحياة الآخرة العليا، فاختار من كلٍّ ما هو أدلُّ على المراد، وحذف الآخر:

اختار من نعت الأولى النعت بالدُّنُوِّ وحذف النعت بالأَوَّلِيَّة لدلالة المذكور من بعد " الاخرة "عليه، والوصف بالدنو في المنزلة هو المُهِمُّ هنا،فكان الأجدر بالذكر

واختار من الحياة الثانية وصف " الاخرة " وحذف الوصف بأنَّها "العليا" لدلالة مقابله عليه " الدنيا" ولأن المذكور هنا "الاخرة" هو الأدل على أصْلِ الأفضلية وإِنْ تساويا في القدر، فكيف إذا ماكانت هي الآخرة وهي العليا؟.

وهذا الضرب من الحذف التقابلى هو ما يعرف عند البلاغيين بـ"الاحتباك"، وهو: أن يتقابل كلامان يحذف من كل واحد منهما ما يدل عليه المذكور في الآخر لوجه بلاغي.

وهو غير قليل في القرآن الكريم، وقد عنى به البقاعي (١.) في تفسيره نظم الدرر، وأفرده بتأليف لم أعثر عليه أسماه:" الإدراك لفن الاحتباك"

وهذا ضرب من ضروب الإيجاز جدير بأن يقوم للوفاء ببعض حقه بحث مستقل يستقصى مواضعه في القرآن الكريم، فإن مجاله فسيح، وصوره عديدة، وأسراره لطيفة، وقد اكثر البقاعي منه في تفسيره، غير أنه لم يكن متوقفًا عند الأسرار البلاغية لكل صورة من صوره.


(١.) إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط الشافعي المعروف بالبقاعي نسبة إلى البقاع بالشام (٨.٩- ٨٨٥) من آثاره تفسيره الفريد: نظم الدررفي تناسب الآيات والسور، ومصاعد النظرللإشراف على مقاصد السور، والفتح القدسي في آية الكرسي الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان، وسر الروح، وعنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران وقد اعددت منذ سنوات عديدة (١٣٩٣هـ) بحثًا للعالمية في نظرية التناسب القرآني في تفسيره يوم أن كان مخطوطًا،وجعلت فيه فصلا عن " الاحتباك " ولعلى أوفق إلى نشر ذلك البحث قريبًا.

<<  <   >  >>