للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير ولم أقل ما أقوله إلا بعد التنقير فمن حفظ شعر الرجل وكشف عن غامضه وراض فكره برائضه أطاعته أعنه الكلام وكان قوله في البلاغة ما قالت فخذ مني في ذلك قول حكيم وتعلم (وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف: ٧٦] وأما البحتري فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق فبينا يكون في شظف نجد إذ يتشبث بريف العرق: وسئل المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه فقال أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري ولعمري أنه أنصف في حكمه وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه فإن البحتري أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء فأدرك بذلك بعد المرام مع قربه إلى الإفهام وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بالنوادر الغالية ورقي في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية وأما المتنبي فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه ولكنه حظى في شعره بالحكم والأمثال واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال وأنا أقول قلاً لست فيه متأثماً ولا منه متلثماً وذاك انه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من أقول قولاً لست فيه متأثماً ولا منه متلثماً وذاك أنه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها وأشجع من أبطالها وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها حتى يظن أن الفريقين قد تقابلا والسلاحين قد تواصلا فطريقه في ذلك تضل بسالكه وتقوم بعذر تاركه ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة فيصف لسانه ما أداه إليه عيانه ومع هذا فإني رأيت الناس عادلين عن سنن التوسط فإما مفرط في وصفه وإما مفرط على أنه كان إذا انفرد بطريق صار عذره، ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة:

لا تطلبنّ كريماً بعد رؤيته ... إن الكرام بأسخاهم يداً ختموا

ولا تبال بشعر بعد شاعره ... قد أفسد القول حتى احمد الصمّم

<<  <  ج: ص:  >  >>