للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وألبس ثياباً نظافاً، ثم أدخل عليه، فقال: السلام عليك أيها الأمير؛ فقال: وعليك السلام يا ماني، ألم يأن أن تزورنا على حين توقان منا إليك، ومنازعة قلوبنا نحوك! فقال ماني: الشوق شديد والمزار بعيد، والحجاب عتيد والبواب فظ، ولو سهل الإذن لسهلت علينا الزيارة، قال: لقد ألطفت في الاستئذان، فلا تمنع في أي وقت جئت من ليل أو نهار! ثم أذن له فجلس، ثم دعا بالطعام فأكل، ثم غسل يده وأخذ مجلسه، وكان محمد قد تشوق إلى السماع من تنوسة جارية ابنة المهدي، فأحضرت، فكان أول ما غنت:

ولست بناس إذ غدوا فتحملوا ... دموعي على الأحباب من شدة الوجد

وقولي وقد زالت بليلٍ حمولهم ... بواكر تخدى: لا يكن آخر العهد

فقال ماني: أحسنت والله، بحق رأس الأمير إلا ما زدت فيه:

أقمت أناجي الفكر والدمع حائر ... بمقلة موقوفٍ على الجهد والصد

ولم يعدني هذا الأمير بعزه ... على ظالم قد لج في الهجر والصد

فاندفعت تغنيه، فرق محمد عبد الله له وقال: أعاشق أنت يا ماني؟ قال: فاستحيا، وغمزه ابن طالوت لئلا يبوح له بشئ فيسقط من عينه، فقال: بل هلع مطرب أعز الله الأمير، وشوق كان كامناً فظهر، وهل بعد المشيب من صبوة! ثم اقترح محمد على تنوسة هذا الصوت من شعر أبي العتاهية:

حجبوها عن الرياح لأني ... قلت يا ريح بلغيها السلاما

لو رضوا بالحجاب هان ولكن ... منعوها يوم الرحيل الكلاما!

فغنته، فطرب محمد، فقال ماني: ما على قائل هذا الشعر لو زاد فيه:

فتنفست ثم قلت لطيفي: ... آه لو زرت طيفها إلماما

خصها بالسلام سراً وإلا ... منعوها لشقوتي أن تناما

فكان أبعث للصبابة بين الأحشاء، وألطف تغلغلاً على كبد الظمآن من زلال الماء، مع حسن تأليف نظامه، وانتهائه إلى غاية تمامه.

قال محمد: أحسنت والله يا ماني، ثم أمر تنوسة بإلحاقها هذين البيتين من شعر أبي نواس:

يا خليلي ساعة لا تريما ... وعلى ذي صبابةٍ فأقيما

ما مررنا بدار زينب إلا ... فضح الدمع سرها المكتوما

فاستحسنه محمد، فقال ماني: لولا رهبة التعدي لأضفت إلى هذي البيتين بيتين

<<  <   >  >>