للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

منقذ رحمه الله تعالى

قال: جرت بيني وبين القاضي المهذب أبي محمد الحسن بن علي بن الزبير مفاوضة في قول الشعر بديهاً، وذلك في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة بدار الوزارة بالقاهرة؛ قال: كنت في مبدأ عمري أملي الشعر إملاء - كالمحفوظ - على من يكتبه، فربما سبقته بالإملاء ول أتوقف. فجعلت أتعجب من قوله تعجباً يظهر منه الاستعباد، فقال: وكأنك تستصعب هذا! إنما الصعب أن تقترح على الشاعر العمل في معنى مخصوص على قافية شاذة في وزن معين، وإن أردت أن تقف على حقيقة ما قلته ليزول عنك الشك وتدركه بالرؤية لا بالرواية، فأنشدني ما أعمل لك عليه، قال: فأنشدته من شعر الحماسة:

فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها ... لقاء عدو أو وعيد أمير

فلن يمنعوا عيني من دائم البكا ... ولن يظهروا ما قد أجن ضميري

فأنشد مبادراً كأنه يحفظ ما ينشده:

صبرت على جور الزمان وصرفه ... وإن كنت يوم البين غير صبور

وإن الذي يبغى اعتلاقاً بودها ... لمستمسك منها بحبل غرور

أرى الناس قد فكوا العناة تحرجاً ... فهل لك يوماً في فكاك أسير!

إذا أظلمت أيامنا من صدودكم ... جلوتم بدوراً في ظلام شعور

ولم أر فيمن أستعين به سوى ... عذولٍ فمن لي فيكم بعذير

وإن ظباء الوحش تحسب منكم ... بحسن نفورٍ عندها ونحور

وما كنت ممن يصبح الحب قادراً ... عليه ولكن ذاك فعل قدير

قال الأمير: فجننت استحساناً لما أتى به وتعجباً من سرعته؛ فقال: أنشدني غير هذا لئلا تقول إنه محفوظ لي، تحرجاً من ذلك، فأبى إلا أن أنشد فأنشده:

وما فارقت لبني عن تقالٍ ... ولكن شقوة بلغت مداها

فاسترسل مع آخر إنشادي قائلاً:

وكل مني النفوس إلى انقطاعٍ ... إذا بلغت لعمرك منتهاها

أناديها وليس تجيب قولي ... كأني قد دعوت بها سواها

سألقى دونها نبل الأعادي ... وأرمي منهم من قد رماها

وأصبر للتجني كل يومٍ ... وما أنا الصبور على قلاها

سلاها حين مال القلب عنها ... ولم يعلق سواها، هل سلاها!

<<  <   >  >>