للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَابٌ فِي الِاعْتِكَافِ وَالِاعْتِكَافُ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ وَالْعُكُوفُ الْمُلَازَمَةُ

وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصِيَامٍ وَلَا يَكُونُ إلَّا مُتَتَابِعًا وَلَا يَكُونُ إلَّا فِي

ــ

[الفواكه الدواني]

[بَاب فِي الِاعْتِكَاف]

(بَابٌ فِي) ذِكْرِ أَحْكَامِ (الِاعْتِكَافِ) وَهُوَ لُغَةً مُطْلَقُ اللُّزُومِ لِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَشَرْعًا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: لُزُومُ مَسْجِدٍ مُبَاحٍ لِقُرْبَةٍ قَاصِرَةٍ بِصَوْمٍ مَعْزُومٌ عَلَى دَوَامِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً سِوَى وَقْتِ خُرُوجِهِ لِجُمُعَةٍ أَوْ لِمَعْنِيِّهِ الْمَمْنُوعِ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِاللُّزُومِ الْإِقَامَةُ، وَاحْتَرَزَ بِمَسْجِدٍ مُبَاحٍ عَنْ مُلَازَمَةِ غَيْرِ الْمُبَاحِ، كَمُلَازَمَةِ نَحْوِ الْكَعْبَةِ مِنْ الْمَسَاجِدِ الْمَحْجُورَةِ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِيهَا، وَالْمُرَادُ بِالْقُرْبَةِ الْقَاصِرَةِ الصَّلَاةُ وَالذِّكْرُ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَيُكْرَهُ فِعْلُ غَيْرِهَا كَاشْتِغَالٍ كَثِيرٍ بِعِلْمٍ أَوْ كِتَابَةٍ، وَمَعْزُومٌ بِالرَّفْعِ صِفَةٌ لِ " لُزُومُ "، وَقَوْلُهُ: سِوَى وَقْتِ خُرُوجِهِ لِجُمُعَةٍ إلَخْ مُسْتَثْنًى مِنْ اللُّزُومِ، فَلَا تَجِبُ إقَامَتُهُ فِي الْمُعْتَكِفِ وَقْتَ خُرُوجٍ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَلْ يَخْرُجُ لِلْجُمُعَةِ وَيَرْجِعُ، وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ وَيُتِمُّ عَلَى مَا مَضَى، هَكَذَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ، وَضَعَّفَ الْأَشْيَاخُ كَلَامَهُ فِي هَذَا، وَالْمُعْتَمَدُ بُطْلَانُ اعْتِكَافِهِ لِخُرُوجِهِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَلِذَلِكَ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الِاعْتِكَافَ فِي مَحَلٍّ فِيهِ خُطْبَةٌ إذَا نَذَرَ أَيَّامًا تَأْخُذُهُ فِيهَا الْجُمُعَةُ، وَإِلَّا خَرَجَ وَبَطَلَ اعْتِكَافُهُ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ، وَقَوْلُهُ: أَوْ لِمَعْنِيِّهِ بِنُونٍ وَبَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ أَيْ مَقْصُودِهِ الْمَمْنُوعِ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَا تَلْزَمُ الْإِقَامَةُ زَمَنَهُ بَلْ يَخْرُجُ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَخُرُوجِهِ لِغُسْلِ جَنَابَةٍ مِنْ احْتِلَامٍ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ لِمَرَضِهِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِذَا خَرَجَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ، وَأَشَارَ إلَى حُكْمِ الِاعْتِكَافِ بِقَوْلِهِ: (وَالِاعْتِكَافُ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ) الْمَطْلُوبُ لِلشَّارِعِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ بِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِهِ، وَاسْتَظْهَرَهُ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِ ابْنِ الْحَاجِبِ قَائِلًا: إذْ لَوْ كَانَ سُنَّةً لَمَا وَاظَبَ السَّلَفُ عَلَى تَرْكِهِ، وَخَالَفَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ: إنَّهُ سُنَّةٌ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَهُوَ مُقْتَضَى الْآثَارِ لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُدَاوِمًا عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الْكَافِي: إنَّهُ سُنَّةٌ فِي رَمَضَانَ جَائِزٌ فِي غَيْرِهِ أَيْ جَوْزًا رَاجِحًا فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ التَّشَبُّهُ بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ فِي اسْتِغْرَاقِ الْأَوْقَاتِ بِالْعِبَادَةِ وَحَبْسِ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا وَاللِّسَانِ عَنْ الْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِي، وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (وَالْعُكُوفُ الْمُلَازَمَةُ) مِنْ مُسْلِمٍ مُمَيِّزٍ لِمَسْجِدٍ مُبَاحٍ بِمُطْلَقِ صَوْمٍ وَلَوْ كَانَ مَنْذُورًا لِقُرْبَةٍ قَاصِرَةٍ وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالذِّكْرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ.

قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ فِعْلُ غَيْرِ ذِكْرٍ وَصَلَاةٍ وَتِلَاوَةٍ كَعِيَادَةٍ وَجِنَازَةٍ وَلَوْ لَاصَقَتْ، وَكَاشْتِغَالٍ بِعِلْمٍ وَكِتَابَتِهِ وَإِنْ مُصْحَفًا إنْ كَثُرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَيُبَاحُ لَهُ لِتَمَعُّشِهِ، كَمَا لَا يُكْرَهُ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ الْمُتَعَيَّنِ، وَيَدْخُلُ فِي الْمُمَيِّزِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى الْبَالِغُ، وَغَيْرُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ.

(تَنْبِيهٌ) : إذَا عَلِمْت مَا قَرَّرْنَاهُ ظَهَرَ لَك أَنَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ التَّعْرِيفُ بِالْأَعَمِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْ الْمُعْتَكِفِ مُلَازَمَتُهُ، وَاَلَّذِي يُنْهَى عَنْهُ كَتَعْرِيفِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ وَفِيهِ خِلَافٌ وَالْأَكْثَرُ عَلَى مَنْعِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّاذِلِيِّ: أَنَّ الْمُصَنِّفَ عَرَّفَ الِاعْتِكَافَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَأَقُولُ فِي جَوَابِهِ ذِكْرُهُ التَّعْرِيفَ بَعْدَ قَوْلِهِ الِاعْتِكَافُ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ يُرْشِدُ إلَى الْمُرَادِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُلَازَمَةُ عَلَى الْقُرْبَةِ الْقَاصِرَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ التَّعْرِيفُ بِالْأَعَمِّ؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ لَيْسَ مِنْ دَأْبِهِ بَيَانُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ بَيَانُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، وَفِيهِ أَيْضًا تَقْدِيمُ التَّصْدِيقِ عَلَى التَّصَوُّرِ لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: وَالِاعْتِكَافُ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ وَهَذَا تَصْدِيقٌ، وَالتَّصَوُّرُ قَوْلُهُ: وَالْعُكُوفُ الْمُلَازَمَةُ هَكَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الَّذِي فِي كَلَامِهِ تَقْدِيمُ التَّصْدِيقِ عَلَى التَّصْوِيرِ لَا عَلَى التَّصَوُّرِ، وَالْمَمْنُوعُ الثَّانِي لَا الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالْعُكُوفُ الْمُلَازَمَةُ تَصْوِيرٌ لَا تَصَوُّرٌ، وَأَشَارَ إلَى شُرُوطِهِ بِقَوْلِهِ:

(وَلَا اعْتِكَافَ يَصِحُّ) عِنْدَنَا (إلَّا بِالصِّيَامِ) وَلَوْ رَمَضَانَ.

قَالَ خَلِيلٌ: وَصِحَّتُهُ بِمُطْلَقِ صَوْمٍ وَلَوْ نَذْرًا. (وَلَا يَكُونُ إلَّا مُتَتَابِعًا) إنْ نَذَرَ تَتَابُعَهُ أَوْ أَطْلَقَ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مَثَلًا.

قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا يَلْزَمُ وَتَتَابُعُهُ فِي مُطْلَقِهِ، وَأَمَّا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ مُدَّةً مُفَرَّقَةً فَلَا يَلْزَمُ تَتَابُعُهَا، بِخِلَافِ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِكَافٍ وَأَطْلَقَ لَا يَلْزَمُهُ تَتَابُعُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاعْتِكَافِ وَالصَّوْمِ أَنَّ الصَّوْمَ إنَّمَا يُفْعَلُ بِالنَّهَارِ فَكَيْفَ مَا أَتَى بِهِ بَرِئَتْ

<<  <  ج: ص:  >  >>