للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدَّمَ.

وَلَا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ.

وَلَا يُقْتَلُ بِالْقَسَامَةِ أَكْثَرُ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ.

وَإِنَّمَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ بِقَوْلِ الْمَيِّتِ

ــ

[الفواكه الدواني]

رُؤْيَتَهُ لِلْمَقْتُولِ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ وَالْمُتَّهَمُ قُرْبَهُ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْقَتْلِ، وَسَيُبَيِّنُ الْمُصَنِّفُ مَحَلَّ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّمَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ بِقَوْلِ الْمَيِّتِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ وَصِفَتُهَا.

(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِشُرُوطِ الْقِصَاصِ وَهِيَ كَوْنُ الْجَانِي مُكَلَّفًا وَغَيْرَ حَرْبِيٍّ وَلَا زَائِدَ حُرِّيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ وَقَصْدُهُ الضَّرْبُ، وَعِصْمَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إمَّا بِالْإِيمَانِ أَوْ الْأَمَانِ أَوْ بِحَطِّ الْجِزْيَةِ وَالْكَفَاءَةِ فِي الدِّينِ وَالْحُرِّيَّةِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا مُخْطِئٍ وَلَا عَلَى حَرْبِيٍّ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ يُقْتَلُ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا إلَّا أَنَّ قَتْلَهُ لَيْسَ لِلْقِصَاصِ وَإِنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ عِصْمَتِهِ وَإِنْ أَسْلَمَ عَصَمَ دَمَهُ، وَلَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلَا مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، لِأَنَّ الْأَعْلَى لَا يُقْتَلُ بِالْأَدْنَى، بِخِلَافِ الْعَكْسِ إلَّا لِغِيلَةٍ فَيُقْتَلُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى.

الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ الْقَتْلِ بَعْدَ الثُّبُوتِ هَلْ يَتَعَيَّنُ أَوْ مَوْكُولٌ إلَى اخْتِيَارِ الْوَلِيِّ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَمَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: فَالْقَوْلُ عَيْنًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ الدِّيَةِ مِنْ الْجَانِي قَهْرًا عَلَيْهِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْعَفْوَ مَجَّانًا، وَقَالَ أَشْهَبُ: يُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ وَلَوْ جَبْرًا عَلَى الْجَانِي.

الثَّالِثُ: تَلَخَّصَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ الْقِصَاصَ يَثْبُتُ بِوَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءِ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ، وَاعْتِرَافُ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا وَهَذَانِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا، وَالثَّالِثُ الْقَسَامَةُ وَفِيهَا خِلَافٌ، الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا الْقَوْدُ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ فَإِنَّهُ قَالَ: الَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ الْقَتْلُ بِالْقَسَامَةِ وَهِيَ السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ وَمِنْهُمْ ابْنُ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمَا: لَا يَثْبُتُ بِهَا الْقَوْدُ وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِهَا الدِّيَةُ فَقَطْ، وَدَلِيلُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا فِي مُسْلِمٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» وَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاَللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُحَيِّصَةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ، فَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فَكَتَبُوا: إنَّا وَاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمْ الدَّارَ» قَالَ الْعَلَّامَةُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذِهِ قِصَّةٌ لَمْ يَحْكُمْ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ لِإِبَايَةِ الْمُدَّعِينَ مِنْ الْأَيْمَانِ وَمِنْ قَبُولِ أَيْمَانِ الْيَهُودِ، وَتَبَرَّعَ بِأَنْ جَعَلَ الدِّيَةَ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِئَلَّا يَبْطُلَ دَمُ الْمُسْلِمِ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ» يَحْتَمِلُ إعْطَاءَ الدِّيَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا قَتْلَهُ عَمْدًا وَلَمْ يُعِينُوا الْقَاتِلَ فَلَا يَلْزَمُ الْقِصَاصُ كَالْقَتِيلِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ.

وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِلَوْثٍ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى إنْ أَتَيْتُمْ بِمَا يُوجِبُ ذَلِكَ، فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ رَدِّ الْيَمِينِ إذَا نَكِلَ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَأَنَّهُ لَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ.

الرَّابِعُ: مُحَيِّصَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ يَاءُ آخَرِ الْحُرُوفِ سَاكِنَةٌ، وَحُوَيِّصَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْيَاءِ آخَرِ الْحُرُوفِ وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَيُقَالُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا فِيهِمَا وَهُمَا أَبْنَاءُ عَمِّ الْقَتِيلِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخُوهُ.

[صفة الْقَسَامَة وَحَقِيقَتَهَا]

ثُمَّ بَيَّنَ صِفَةَ الْقَسَامَةِ وَحَقِيقَتَهَا بِقَوْلِهِ: (يُقْسَمُ) أَيْ يَحْلِفُ (الْوُلَاةُ) جَمْعُ وَلِيٍّ (خَمْسِينَ يَمِينًا) قَالَ خَلِيلٌ: وَهِيَ خَمْسُونَ يَمِينًا مُتَوَالِيَةً بَتًّا، وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ غَائِبًا أَوْ أَعْمَى، لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُعَايَنَةِ.

(وَ) بَعْدَ حَلِفِهَا (يَسْتَحِقُّونَ الدَّمَ) فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ، وَكَيْفِيَّةُ الْحَلِفِ: إنْ كَانُوا خَمْسِينَ أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ يَمِينًا، وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ طَاعَ اثْنَانِ مِنْ الْخَمْسِينَ يَحْلِفَا فَإِنَّهُمْ يَحْلِفُونَهَا مُتَوَالِيَةً فِي الْعَمْدِ بِأَنْ يَحْلِفَ هَذَا يَمِينًا وَهَذَا يَمِينًا حَتَّى تَتِمَّ الْأَيْمَانُ، وَفِي الْخَطَإِ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ، وَبَعْدَ فَرَاغِهِ يَحْلِفُ الْآخَرُ حِصَّتَهُ، وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ فِي الْعَمْدِ يَبْطُلُ الدَّمُ بِنُكُولِ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ الْخَطَإِ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْحَالِفِ بِنُكُولِ النَّاكِلِ، وَصَرِيحُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَحَدِيثِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ يَبْدَءُونَ بِالْيَمِينِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، قَالَ مَالِكٌ: الَّذِي سَمِعَتْ مِمَّنْ أَرْضَى فِي الْقَسَامَةِ وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنْ يَبْدَأَ الْمُدَّعُونَ بِالْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ فَيَحْلِفُوا.

قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ أَوْ مَاتَ مِنْ ضَرْبِهِ إنْ كَانَ عَاشَ وَلَا يُزَادُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.

قَالَ فِي شَرْحِ الْجَلَّابِ: وَإِنْ قَالَ وَاَللَّهِ فَقَطْ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَقُولَ: الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ.

وَفِي شُرَّاحِ خَلِيلٍ الْيَمِينُ فِي كُلِّ حَقٍّ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إلَّا مَوْضِعَيْنِ: اللِّعَانُ وَالْقَسَامَةُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>