للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعَقْلَ فَأَسْكَرَهُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فَهُوَ خَمْرٌ وَقَالَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَنَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَذَلِكَ أَنْ يُخْلَطَا عِنْدَ الِانْتِبَاذِ وَعِنْدَ الشُّرْبِ،

وَنَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ.

وَنَهَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

ــ

[الفواكه الدواني]

مَا أَصَابَ جَسَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ مِنْهُ لِنَجَاسَتِهِ وَتَقَايُئِهِ قَبْلَ صَلَاتِهِ إنْ قَدَرَ، وَإِلَّا أَثِمَ فَتَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ قَصْرُ الْخَمْرِ عَلَى مَاءِ الْعِنَبِ قَالَ: (وَكُلُّ مَا خَامَرَ) أَيْ لَابَسَ (الْعَقْلَ فَأَسْكَرَهُ) أَيْ غَيَّبَهُ (مِنْ كُلِّ شَرَابٍ) وَلَوْ مِنْ الْبِطِّيخِ أَوْ اللَّبَنِ أَوْ الطَّعَامِ الْمَائِعِ (فَهُوَ خَمْرٌ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» وَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَاءِ الْعِنَبِ الْمَغْلِيِّ عَلَى النَّارِ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّخْمِيرِ وَهُوَ التَّغْطِيَةُ لِأَنَّهَا تُغَطِّي الْعَقْلَ، وَقِيلَ مِنْ الْمُخَالَطَةِ لِأَنَّهَا تُخَالِطُ الْعَقْلَ فَتُغَيِّبُهُ، وَلِذَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَالْمُفْسِدِ، وَيُرَادِفُهُ الْمُخَدِّرُ وَالْمُرَقِّدُ بِأَنَّ الْمُسْكِرَ مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ دُونَ الْحَوَاسِّ مَعَ نَشْوَةٍ وَفَرَحٍ. وَالْمُفْسِدُ مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ دُونَ الْحَوَاسِّ لَا مَعَ نَشْوَةٍ وَفَرَحٍ كَحَبِّ الْبَلَاذِرِ، وَالْمُرَقِّدُ مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ وَالْحَوَاسَّ كَالسَّيْكُرَانِ وَأَحْكَامُهَا مُخْتَلِفَةٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَالنَّجَاسَةِ فِي الْمُسْكِرِ وَحُرْمَةِ الْقَلِيلِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْكِرِ فَلَا يَحْرُمُ مِنْهُ إلَّا مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ عَلَى كَلَامِ الْقَرَافِيِّ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِجَوَازِ تَنَاوُلِ مَا قَلَّ مِنْ نَحْوِ الْحَشِيشَةِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ التَّوْضِيحِ لِلْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ حُرْمَةَ حَقِّ الْقَلِيلِ. (وَقَالَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ) الصَّلَاةُ وَ (السَّلَامُ إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا) وَهُوَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (حَرَّمَ بَيْعَهَا) وَإِنْ كَانَتْ حَلَالًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل: ٦٧] أَيْ خَمْرًا يُسْكِرُ سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ وَهَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِهَا ثُمَّ حُرِّمَتْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: ٤٣] ثُمَّ حُرِّمَتْ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: ٩٠] أَيْ الْقِمَارُ، وَالْأَنْصَابُ الْأَصْنَامُ، وَالْأَزْلَامُ أَقْدَاحُ الِاسْتِقْسَامِ رِجْسٌ خَبِيثٌ مُسْتَقْذَرٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يُزَيِّنُهُ، فَاجْتَنِبُوهُ أَيْ الرِّجْسَ الْمُعَبَّرَ بِهِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَحَدُهَا الْخَمْرُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرُهَا وَمُعْتَصِرُهَا وَشَارِبُهَا وَحَامِلُهَا وَالْمَحْمُولَةُ إلَيْهِ وَسَاقِيهَا وَبَائِعُهَا وَآكِلُ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرَاةُ لَهُ» .

(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ بَيْعِهَا بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَالظَّاهِرُ بَلْ الْمُتَعَيِّنُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ كَوْنِ الْبَائِعِ ذِمِّيًّا فَتُرَدُّ لَهُ، فَإِنْ أَرَاقَهَا الْمُشْتَرِي لَهَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا فَتُرَاقُ عَلَيْهِ بِحَاكِمٍ إنْ كَانَ ثَمَّ حَاكِمٌ يَرَى تَحْلِيلَهَا وَإِلَّا أَرَاقَهَا مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَصِحُّ لَهُ تَمَلُّكُ الْخَمْرِ.

الثَّانِي: كَمَا يَحْرُمُ بَيْعُ الْخَمْرِ يَحْرُمُ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا، وَيُفْسَخُ إنْ وَقَعَ وَيُرَدُّ لِبَائِعِهِ وَلَوْ مُسْلِمًا، وَمِثْلُهُ كُلُّ مَا عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَفْعَلُ بِهِ مَا لَا يَحِلُّ كَشِرَاءِ مَمْلُوكٍ لِلْفِعْلِ بِهِ أَوْ خَشَبَةٍ لِمَنْ يَتَّخِذُهَا نَاقُوسًا أَوْ أَرْضًا لِمَنْ يَعْمَلُهَا كَنِيسَةً.

الثَّالِثُ: هَذَا حُكْمُ الْخَمْرَةِ إذَا اسْتَمَرَّتْ عَلَى حَالِهَا، وَأَمَّا لَوْ تَحَجَّرَتْ وَتَخَلَّلَتْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَشُرْبُهَا وَيَطْهُرُ إنَاؤُهَا تَبَعًا لَهَا وَلَوْ فَخَّارًا بِغَوَّاصٍ وَلَوْ ثَوْبًا وَيُصَلَّى بِهِ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ الْمُصَابِ بِالْبَوْلِ أَوْ الدَّمِ فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ وَلَوْ ذَهَبَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ نَجَاسَةَ الْخَمْرِ عَارِضَةٌ بِالشِّدَّةِ وَنَجَاسَةُ نَحْوِ الْبَوْلِ أَصْلِيَّةٌ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ تَخْلِيلِهَا بِنَفْسِهَا أَوْ بِفِعْلِ فَاعِلٍ، وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى تَخْلِيلِهَا بِالْجَوَازِ وَالْكَرَاهَةِ، فَإِنْ قِيلَ: حُكْمُ الْخَبَثِ لَا يُزَالُ إلَّا بِالْمُطْلَقِ. فَالْجَوَابُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الِاسْتِحَالَةَ تَحْصُلُ بِهَا الطَّهَارَةُ أَيْضًا، فَقَوْلُهُمْ: لَا يُرْفَعُ الْحَدَثُ أَوْ حُكْمُ الْخَبَثِ إلَّا بِالْمُطْلَقِ الْحَصْرِ إضَافِيٌّ أَيْ لَا يُرْفَعُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَائِعَاتِ إلَّا بِالْمُطْلَقِ. فَإِنْ قِيلَ: يَرِدُ عَلَى قَوْلِنَا الِاسْتِحَالَةُ تَحْصُلُ بِهَا الطَّهَارَةُ الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ بِالنَّجَسِ يَزُولُ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ الرَّاجِحَ فِيهِ الْبَقَاءُ عَلَى التَّنْجِيسِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ اسْتِحَالَةُ الدَّمِ كَاسْتِحَالَةِ الدَّمِ مِسْكًا أَوْ لَبَنًا أَوْ الْخَمْرِ خَلًّا بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَافْهَمْ، فَإِنَّ الْفَقِيهَ قَدْ يَرْتَبِكُ فِي هَذِهِ الْأَبْحَاثِ فَلَا يَجِدُهَا.

وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَى حُرْمَتِهِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَهُوَ الْخَمْرُ، شَرَعَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِي حُرْمَتِهِ وَكَرَاهَتِهِ بِقَوْلِهِ: (وَنَهَى) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (عَنْ) تَنَاوُلِ (الْخَلِيطِينَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَذَلِكَ) النَّهْيُ فِي صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا (أَنْ يُخْلَطَا عِنْدَ الِانْتِبَاذِ) بِأَنْ يُفْضَخَ التَّمْرُ وَالْعِنَبُ مَثَلًا وَبَعْدَ هَرْسِهِمَا أَوْ دَقِّهِمَا مَعًا يُصَبُّ عَلَيْهِمَا الْمَاءُ وَيُتْرَكَانِ حَتَّى يَصِيرَ الْمَاءُ حُلْوًا.

(وَ) الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُنْبَذَ وَاحِدٌ عَلَى حِدَتِهِ فِي إنَاءٍ، فَإِذَا خَرَجَ مَاءُ كُلٍّ يُخْلَطَانِ (عِنْدَ الشُّرْبِ) لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «مِنْ نَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ، وَعَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَعَنْ خَلِيطِ الزَّهْوِ وَالرُّطَبِ» ، وَقَالَ أَيْضًا: «مَنْ شَرِبَ مِنْكُمْ النَّبِيذَ فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا أَوْ تَمْرًا فَرْدًا» وَاخْتُلِفَ فِي النَّهْيِ فَقِيلَ عَلَى الْحُرْمَةِ لِاحْتِمَالِ تَخَمُّرِ أَحَدِهِمَا بِسَبَبِ مُخَالَطَةِ الْآخَرِ، وَقِيلَ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُهُ الْكَرَاهَةُ فَإِنَّهُ قَالَ عَاطِفًا عَلَى الْمَكْرُوهِ: وَشَرَابُ خَلِيطَيْنِ وَمَحَلُّ النَّهْيِ حَيْثُ طَالَ زَمَنُ الِانْتِبَاذِ

<<  <  ج: ص:  >  >>