للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالنَّصِيحَةُ لَهُمْ

وَلَا يَبْلُغُ أَحَدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ كَذَلِكَ رُوِيَ

ــ

[الفواكه الدواني]

بِالْقَوِيِّ، وَإِلَّا جَازَ لَهُ الْفِطْرُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى أَمْرِهِمَا كَمَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَبِهَذَا وَافَقَ ظَاهِرَ كَلَامِ خَلِيلٍ فِي عَدَمِ تَقْيِيدِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدُوا كَلَامَهُ بِكَوْنِ أَمْرِهِمَا لَهُ بِالْفِطْرِ عَلَى وَجْهِ الرَّأْفَةِ وَالشَّفَقَةِ مِنْ ضَرَرِ إدَامَةِ الصَّوْمِ.

(تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ الْوَالِدَيْنِ خُصُوصُ الْأَبِ وَالْأُمِّ دُونَ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ الطُّرْطُوشِيِّ: لَمْ أَجِدْ نَصًّا لِلْعُلَمَاءِ فِي الْأَجْدَادِ، وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُمْ لَا يَبْلُغُونَ مَبْلَغَ الْآبَاءِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ عِيَاضٌ قَائِلًا: الَّذِي عِنْدِي هَذَا، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ لُزُومُ بِرِّ الْأَجْدَادِ، وَقَدْ رَأَى مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْ الْجَدِّ فِي ابْنِ ابْنِهِ إلَّا أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا لَا يُشَكُّ مَعَهُ فِي قَصْدِهِ قَتْلَهُ كَالْأَبِ سَوَاءً، وَأَقُولُ تَقْيِيدُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ لِلْأَبَوَيْنِ بِدَنِيَّةٍ فِي بَابِ النَّفَقَاتِ.

وَفِي بَابِ الصَّوْمِ إذَا أَمَرَاهُ بِالْفِطْرِ، وَفِي الْجِهَادِ إذَا مَنَعَاهُ مِنْ الْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، يُوَافِقُ كَلَامَ الطُّرْطُوشِيِّ مِنْ عَدَمِ مُسَاوَاةِ الْجَدِّ لِلْأَبِ، وَلَا يَشْكُلُ تَسْوِيَةُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ لِفَظَاعَةِ أَمْرِ الْقِصَاصِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الثَّانِي: وَقَعَ الِاضْطِرَابُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي بِرِّهِمَا هَلْ هُوَ عَلَى السَّوَاءِ أَوْ عَلَى التَّفَاوُتِ، فَمِنْ قَائِلٍ بِالتَّسَاوِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَمِنْ قَائِلٍ بِالتَّفَاوُتِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ الْأُمِّ أَكْثَرُ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ مَا قَالُوهُ فِي النَّفَقَةِ مِنْ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ لَهُمَا وَلَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى نَفَقَةِ أَحَدِهِمَا فَيُنْفِقُ عَلَى الْأُمِّ وَلَا يَظْهَرُ عِنْدِي لِلْخِلَافِ ثَمَرَةٌ فِي الِاحْتِرَامِ وَالْإِجْلَالِ بِالْقَوْلِ وَالْقَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[الِاسْتِغْفَار لِلْوَالِدَيْنِ]

(وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ (عَلَى الْمُؤْمِنِ) الْمُكَلَّفِ (أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ) أَيْ يَطْلُبَ مِنْ رَبِّهِ الْمَغْفِرَةَ لَهُمَا امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: ٢٤] وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِالدُّعَاءِ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، فَفِي الْحَدِيثِ: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ وَعَدَّ مِنْهَا دُعَاءَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ» . وَكَمَا يَنْتَفِعُ بِالدُّعَاءِ لَهُ يَنْتَفِعُ بِالصَّدَقَةِ عَنْهُ، وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي انْتِفَاعِهِ بِالْقِرَاءَةِ لَهُ وَرَجَّحَ بَعْضٌ انْتِفَاعَهُ بِهَا، فَلَا يَنْبَغِي إهْمَالُهَا سَوَاءٌ وَقَعَتْ عَلَى قَبْرِهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ حَتَّى تَصِحَّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا وَتَلْزَمُ، وَقَيَّدَ بَعْضٌ الْخِلَافَ بِمَا إذَا لَمْ يَجْعَلْ أَوَّلَ ذَلِكَ دُعَاءً، وَإِلَّا انْتَفَعَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَوْصِلْ ثَوَابَ مَا أَقْرَؤُهُ إلَى فُلَانٍ، وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى نَفْعِ الدُّعَاءِ، وَمَفْهُومُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِغْفَارُ لِلْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ لِآيَةِ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: ١١٣] الْآيَةَ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي اسْتِغْفَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْتِغْفَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لِأَبَوَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُرْمَةَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَلَوْ لِلْأَبَوَيْنِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ خِلَافٌ فِي اسْتِغْفَارِهِ لِلْأَبَوَيْنِ حَالَ حَيَاتِهِمَا إذْ قَدْ يُسْلِمَانِ.

(تَنْبِيهٌ) لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ لِأَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَحْصُلُ وَلَوْ بِمَرَّةٍ فِي عُمُرِهِ مَعَ قَصْدِ أَدَاءِ الطَّالِبِ، كَمَا تَكْفِي الْمَرَّةُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِغْفَارِ لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ لِخُصُوصِ أَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِبَقِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ.

(وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنَّهُ يَجِبُ (عَلَيْهِ مُوَالَاةُ) أَيْ مُوَادَّةُ إخْوَانِهِ (الْمُؤْمِنِينَ) لِحَدِيثِ: «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا» وَالْمُرَادُ بِمُوَالَاتِهِمْ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِمْ وَإِظْهَارُ الْمَحَبَّةِ لَهُمْ، وَاجْتِنَابُ مَا يُوجِبُ الْمُنَافَرَةَ مِنْ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمُوَالَاتِهِمْ الِاجْتِمَاعُ بِالْأَبْدَانِ الْعَارِي عَنْ الْمَحَبَّةِ الْقَلْبِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِينَ الْجَانِبِ الْمَعْرُوفِ بِالتَّوَاضُعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ كَالتَّوَاضُعِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْحَاكِمِ وَالْعَالِمِ وَالْوَالِدِ، وَحَرَامٌ كَالتَّوَاضُعِ لِأَهْلِ النَّارِ وَالظُّلْمِ وَالْكِبْرِ لِأَنَّ التَّوَاضُعَ لِهَؤُلَاءِ هُوَ الذُّلُّ الَّذِي لَا عِزَّ مَعَهُ وَالْخِسَّةُ الَّتِي لَا رِفْعَةَ مَعَهَا، وَمَنْدُوبٌ كَالتَّوَاضُعِ لِعِبَادِ اللَّهِ سِوَى مَنْ ذُكِرَ، وَمَفْهُومُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَجُوزُ مُوَالَاتُهُمْ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: ٢٢] بَلْ نَقْصِدُهُمْ بِالسُّوءِ وَنُقَاتِلُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ إنْ كَانُوا جَاهِلِيِّينَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِحُرْمَةِ أَذِيَّةِ الذِّمِّيِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَنَعَ الذِّمِّيُّ وَلِيمَةً لِخِتَانٍ أَوْ غَيْرِهِ وَدَعَا الْمُسْلِمَ فَقِيلَ يُجِيبُهُ وَقِيلَ لَا.

(وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَيْضًا (النَّصِيحَةُ لَهُمْ) أَيْ لِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِإِرْشَادِهِمْ إلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>