للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ الْهِجْرَانِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ كَلَامَهُ بَعْدَ السَّلَامِ،

وَالْهِجْرَانُ الْجَائِزُ هِجْرَانُ ذِي الْبِدْعَةِ أَوْ مُتَجَاهَرٍ بِالْكَبَائِرِ لَا يَصِلُ إلَى عُقُوبَتِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مَوْعِظَتِهِ أَوْ لَا يَقْبَلُهَا وَلَا غِيبَةَ فِي هَذَيْنِ فِي ذِكْرِ حَالِهِمَا وَلَا فِيمَا يُشَاوَرُ فِيهِ لِنِكَاحٍ أَوْ

ــ

[الفواكه الدواني]

(الْهِجْرَانِ) إذَا قَصَدَ بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنْ الْهِجْرَانِ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْهِجْرَانِ وَهُوَ نِفَاقٌ، وَإِذَا سَلَّمَ بِقَصْدِ الْخُرُوجِ مِنْ الْهِجْرَانِ فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ الْآخَرُ خَرَجَا مِنْ الْهِجْرَانِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ خَرَجَ الْمُسَلِّمُ فَقَطْ، وَيُفْهَمُ مِنْ اشْتِرَاطِهِمْ قَصْدَ الْخُرُوجِ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ غَيَّرَ مِنْ هَجْرِهِ هِجْرَانًا مُحَرَّمًا لَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِثْمِ.

(وَ) إذَا خَرَجَ مِنْ الْهِجْرَانِ بِسَلَامِهِ بِشَرْطِهِ. (لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ كَلَامَهُ بَعْدَ السَّلَامِ) بَلْ الْمُسْتَحَبُّ الِاسْتِرْسَالُ عَلَى كَلَامِهِ كُلَّمَا يَرَاهُ، لِأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِإِسَاءَةِ الظَّنِّ بِبَقَائِهِ عَلَى الْهِجْرَانِ، وَصَرِيحُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْحُرْمَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ، خِلَافًا لِمَنْ شَرَطَ فِي خُرُوجِهِ كَلَامَهُ مَعَ مُخَالَطَتِهِ، بَلْ إنْ تَرَكَ كَلَامَهُ بَعْدَ السَّلَامِ زِيَادَةً عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا كَانَ هِجْرَانًا ثَانِيًا يَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ إثْمِهِ، لِأَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَبْطُلُ بِمُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ بَلْ يُجَدِّدُ التَّوْبَةَ لِمَا اقْتَرَفَ،.

[الْهِجْرَانُ الْجَائِزُ]

وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ الْهِجْرَانِ إنَّمَا هُوَ مَا كَانَ لِحُظُوظِ الدُّنْيَا، بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا كَانَ لِدَيْنِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: (وَالْهِجْرَانُ الْجَائِزُ) أَيْ الْمَأْذُونُ فِيهِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ وَاجِبٌ (هِجْرَانُ ذِي) أَيْ صَاحِبِ (الْبِدْعَةِ) الْمُحَرَّمَةِ كَالْخَوَارِجِ وَسَائِرِ فَرْقِ الضَّلَالِ لِأَنَّ مُخَالَطَتَهُمْ تُؤَدِّي إلَى الْمُشَارَكَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَصْحَبَ إلَّا أَصْحَابَ الْفَضْلِ، وَحَقِيقَةُ الْبِدْعَةِ إحْدَاثُ أَمْرٍ فِي الدِّينِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنْهُ وَهُوَ قَرِيبٌ أَوْ مُسَاوٍ لِقَوْلِ بَعْضِهِمْ: الْبِدْعَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا لَمْ يُعْهَدُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَقَيَّدْنَاهَا بِالْمُحَرَّمَةِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ إلَى أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْخَمْسَةِ: وَاجِبَةٌ كَتَدْوِينِ أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ كَالْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ لِأَنَّهُمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِمَا فَهْمُ الْكِتَابِ وَضَبْطُ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ بِحِفْظِهَا وَكِتَابَتِهَا. وَمَنْدُوبَةٌ كَإِحْدَاثِ الْمَدَارِسِ وَالرَّبْطِ. وَمُحَرَّمَةٌ كَالِاعْتِزَالِ وَوَضْعِ الْمُكُوسِ. وَمَكْرُوهَةٌ كَتَطْوِيلِ الثِّيَابِ وَتَوْسِيعِهَا وَالتَّغَالِي فِي أَثْمَانِهَا لِغَيْرِ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَّامِ وَتَزْيِينِ الْخُيُولِ وَغَيْرِهَا فِي غَيْرِ الْجِهَادِ. وَمُبَاحَةٌ كَاِتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ وَالتَّوْسِيعِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ. وَتَوَقَّفَ بَعْضُ الشُّيُوخِ فِي حِلِّ هِجْرَانِ ذِي الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ وَيَظْهَرُ لِي عَدَمُ حِلِّ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْهِجْرَانَ مُحَرَّمٌ فِي الْأَصْلِ وَلَا يُرْتَكَبُ الْمُحَرَّمُ لِأَجَلِ مَكْرُوهٍ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي. (أَوْ) أَيْ وَمِنْ الْهِجْرَانِ الْجَائِزِ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ هِجْرَانُ كُلِّ (مُتَجَاهِرٍ بِالْكَبَائِرِ) كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَالسَّرِقَةِ، وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ الْمُكَلَّفُ عَلَى هِجْرَانِ الْمُجَاهِرِ إذَا كَانَ (لَا يَصِلُ إلَى عُقُوبَتِهِ) أَيْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى زَجْرِهِ عَنْهَا إذَا كَانَ لَا يَتْرُكُهَا إلَّا بِالْعُقُوبَةِ. (وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مَوْعِظَتِهِ) لِشِدَّةِ تَجَبُّرِهِ. (أَوْ) يَقْدِرُ لَكِنْ (لَا يُقَلِّبُهَا) لِعَدَمِ عَقْلٍ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ زَجْرِهِ عَنْ مُخَالَطَةِ الْكَبَائِرِ بِعُقُوبَتِهِ بِيَدِهِ إنْ كَانَ حَاكِمًا أَوْ فِي وِلَايَتِهِ أَوْ يَرْفَعُهُ لِلْحَاكِمِ أَوْ بِمُجَرَّدِ وَعْظِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ زَجْرُهُ وَإِبْعَادُهُ عَنْ فِعْلِ الْكَبَائِرِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ بِهَجْرِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُتَجَاهِرَ بِالْكَبَائِرِ لَا يَجِبُ هِجْرَانُهُ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مُخَالَطَةِ الْكَبَائِرِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ زَجْرِهِ وَبَقِيَ حُكْمُ مَا إذَا كَانَ يَسْتَطِيعُ هِجْرَانَهُ لِخَوْفِهِ مِنْهُ بِعَدَمِ مَوَدَّتِهِ وَمُخَالَطَتِهِ وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مُدَاهَنَتُهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّا لَنَبَشُّ فِي وُجُوهِ قَوْمٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ، يُرِيدُ بِهِمْ الظَّلَمَةَ وَالْفَسَقَةَ الَّذِينَ يُتَّقَى شَرُّهُمْ، يَتَبَسَّمُ فِي وُجُوهِهِمْ وَيُشْكَرُونَ بِكَلِمَاتٍ مُحِقَّةٍ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَفِيهِ صِفَةٌ تُشْكَرُ وَلَوْ كَانَ أَخْبَثَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُ ذَلِكَ اتِّقَاءً لِشَرِّهِ، وَلَا يُقَالُ: الْمُدَاهَنَةُ حَرَامٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُحَرَّمُ قَدْ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ وَهِيَ بَذْلُ الدِّينِ لِإِصْلَاحِ الدُّنْيَا حَرَامٌ، كَشُكْرِ ظَالِمٍ عَلَى ظُلْمِهِ لِيَعْظُمَ عِنْدَهُ مُحَرَّمُهُ. وَقَدْ تَعْرِضُ لَهَا مَا يُوجِبُهَا إنْ كَانَ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى دَفْعِ مَفْسَدَةٍ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِهَا، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهَا مَا يَقْتَضِي نَدْبُهَا إنْ كَانَ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مَنْدُوبٍ، وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً إنْ كَانَتْ لِمُجَرَّدِ الضَّعْفِ وَالْجُبْنِ لَا لِضَرُورَةٍ تَقْتَضِيهَا فَلَيْسَتْ مُحَرَّمَةً مُطْلَقًا، خِلَافًا لِمَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَأَمَّا الْمُدَارَاةُ وَهِيَ بَذْلُ الدُّنْيَا لِإِصْلَاحِ الدِّينِ أَوْ الْعِرْضِ أَوْ الْجَاهِ فَجَائِزَةٌ مَشْرُوعَةٌ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرَتْ بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أُمِرَتْ بِالْفَرَائِضِ فَهِيَ صَدَقَةٌ» وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّهُ لَا إثْمَ فِي هِجْرَانِ الْمُبْتَدِعِ وَذِي الْكَبَائِرِ الْمُتَجَاهِرِ بِهَا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا تَحْرُمُ غِيبَتُهُمَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا غِيبَةَ) مُحَرَّمَةً (فِي هَذَيْنِ) اللَّذَيْنِ يَجُوزُ هِجْرَانُهُمَا وَهُمَا الْمُبْتَدِعُ وَالْمُتَجَاهِرُ بِكَبَائِرِهِ. (فِي) أَيْ بِسَبَبِ (ذِكْرِ حَالِهِمَا) فَيَجُوزُ ذِكْرُهُمَا بِبَيَانِ حَالِهِمَا بِأَنْ يُقَالَ فِي الْمُبْتَدِعِ: فُلَانٌ اعْتِقَادُهُ بَاطِلٌ لِمُخَالِفَتِهِ أَهْلَ السُّنَّةِ، أَوْ فُلَانٌ مُعْتَزِلِيٌّ، وَفِي حَقِّ الْمُتَجَاهِرِ فُلَانٌ مُصِرٌّ عَلَى الْكَبَائِرِ وَلَا يُبَالِي مِنْ الْخَلْقِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا تَحِلُّ غِيبَةُ هَذَيْنِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُبْتَدِعُ مُتَجَاهِرًا بِبِدْعَتِهِ، كَمَا أَنَّ الْفَاسِقَ مُتَجَاهِرٌ بِكَبَائِرِهِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُ كُلٍّ بِمَا يَتَجَاهَرُ بِهِ، وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْعُيُوبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِجَوَازِهِ وَجْهٌ آخَرُ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ، هَذَا كَلَامُ النَّوَوِيِّ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْقَرَافِيِّ الْمُعْلِنُ بِالْفُسُوقِ، وَكَقَوْلِ امْرِئِ الْقِيس: فَمِثْلُك حُبْلَى قَدْ طُرِقَتْ وَمُرْضِعٌ. فَيَفْتَخِرُ بِالزِّنَا فِي شِعْرِهِ، فَلَا يَضُرُّ أَنْ يُحْكَى ذَلِكَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَلَّمُ إذَا سَمِعَهُ بَلْ يُسَرُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>