للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَرْخَصَ مَالِكٌ فِي التَّخَلُّفِ لِكَثْرَةِ زِحَامِ النَّاسِ فِيهَا.

ــ

[الفواكه الدواني]

الْوُجُوبِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ (إذَا دُعِيت) أَيْ طُلِبْت (إلَى وَلِيمَةِ الْعُرْسِ) أَيْ النِّكَاحُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى وَلِيمَةِ الْعُرْسِ فَلْيَأْتِهَا» وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ وَصَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ: «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَالْعِصْيَانُ إنَّمَا يَكُونُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ، وَأَفْهَمَ قَوْلُهُ: دُعِيت أَنَّ وُجُوبَ الْإِجَابَةِ مَشْرُوطٌ بِالدَّعْوَةِ وَبِتَعْيِينِ الْمَدْعُوِّ وَهُوَ كَذَلِكَ.

قَالَ خَلِيلٌ: تَجِبُ إجَابَةُ مَنْ عَيَّنَ وَإِنْ صَائِمًا، وَتَعْيِينُهُ يَحْصُلُ بِقَوْلِ صَاحِبِ الْعُرْسِ: تَحْضُرُ عِنْدَنَا فِي وَقْتِ كَذَا، أَوْ بِقَوْلِهِ لِشَخْصٍ: اُدْعُ لِي فُلَانًا بِعَيْنِهِ، أَوْ أَرْسَلَ لَهُ وَرَقَةً فِيهَا اسْمُهُ، أَوْ قَالَ لِشَخْصٍ: اُدْعُ لِي أَهْلَ الْمَحِلِّ الْفُلَانِيِّ وَهُمْ مَحْصُورُونَ، لَا إنْ قَالَ: اُدْعُ لِي مَنْ لَقِيت.

(تَنْبِيهٌ) لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِبَيَانِ حُكْمِ مَشْرُوعِيَّتِهَا وَلَا كَوْنِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَا كَوْنِهَا مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ حُكْمَهَا النَّدْبُ عَلَى الزَّوْجِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَبْحٌ وَالْمُسْتَحَبُّ كَوْنُهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ، وَيَحْصُلُ النَّدْبُ بِفِعْلِهَا وَلَوْ مَرَّةً، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ كَثِيرَ الْمَالِ، وَاسْتَحَبَّهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِأَهْلِ السَّعَةِ أُسْبُوعًا وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَطْلُوبِيَّةِ إفْشَاءِ النِّكَاحِ إلَّا أَنْ لَا يَقْصِدَ الزَّوْجُ ذَلِكَ فَيُكْرَهُ تَكْرَارُهَا. فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْإِجَابَةِ مُنَافٍ لِنَدْبِ فِعْلِهَا. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ إذْ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مَنْدُوبًا وَيَجِبُ بِسَبَبِهِ أَشْيَاءُ. أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى مَنْدُوبَةٌ وَيَجِبُ لَهَا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَابْتِدَاءُ السَّلَامِ سُنَّةٌ وَيَجِبُ رَدُّهُ.

ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُ الْإِجَابَةَ بِقَوْلِهِ: (إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ) أَيْ فِي مَحَلِّ الْوَلِيمَةِ (لَهُمْ مَشْهُورٌ) أَيْ ظَاهِرٌ بِحَيْثُ يُخَالِطُهُ الْمَدْعُوُّ وَهُوَ مِمَّا يَحْرُمُ حُضُورُهُ وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا مُنْكَرٌ بَيِّنٌ) أَيْ مَشْهُورٌ ظَاهِرٌ، كَاخْتِلَاطِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، أَوْ الْجُلُوسِ عَلَى الْفُرُشِ الْكَائِنَةِ مِنْ الْحَرِيرِ، أَوْ الِاتِّكَاءِ عَلَى وَسَائِدَ مَصْنُوعَةٍ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْجُلُوسُ مِنْك أَوْ مِنْ غَيْرِك بِحَضْرَتِك، وَلَا تَزُولُ الْحُرْمَةُ بِوَضْعِ حَائِلٍ عَلَيْهِ.

قَالَ خَلِيلٌ: تَجِبُ إجَابَةُ مَنْ عَيَّنَ وَإِنْ صَائِمًا إنْ لَمْ يَحْضُرْ مَنْ يَتَأَذَّى بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُنْكَرٌ كَفَرْشِ حَرِيرٍ وَصُوَرٍ كَجِدَارٍ، وَأَنْ لَا يَحْضُرَ مَنْ يَتَأَذَّى بِهِ الْمَدْعُوُّ، وَأَنْ لَا يَخُصَّ الْفَاعِلَ بِهَا الْأَغْنِيَاءَ، وَأَنْ لَا يَكُونَ بِحَيْثُ إذَا جَلَسَ جَمَاعَةٌ لِلْأَكْلِ تَقِفُ جَمَاعَةٌ عَلَى رُءُوسِهِمْ يَنْظُرُونَهُمْ، وَأَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ كَثْرَةُ زِحَامٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْبَابُ مَغْلُوقًا بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِإِذْنٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْغَلْقُ لِمَنْعِ مَنْ يَضُرُّ دُخُولُهُ، وَأَنْ تَكُونَ الْوَلِيمَةُ لِمُسْلِمٍ فَلَا تَجِبُ إجَابَةٌ لِوَلِيمَةِ كَافِرٍ، وَمَفْهُومُ الْعُرْسِ أَنَّ وَلِيمَةَ غَيْرِهِ لَا تُجَابُ بَلْ تُكْرَهُ.

قَالَ اللَّخْمِيُّ: كَرِهَ مَالِكٌ لِأَهْلِ الْفَضْلِ إتْيَانَ طَعَامِ غَيْرِ الْعُرْسِ، وَأَرَى إنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ صَدِيقًا أَوْ جَارًا أَوْ قَرِيبًا كَانَ طَعَامُهُ كَالْعُرْسِ. وَبَحَثَ الْأُجْهُورِيُّ فِي قَوْلِهِ كَالْعُرْسِ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَفْيُ كَرَاهَةِ الْحُضُورِ، وَأَقُولُ: مَا الْمَانِعُ مِنْ إبْقَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ اقْتِضَائِهِ الْوُجُوبَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ إجَابَةِ نَحْوِ الْقَرِيبِ وَالصَّدِيقِ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْمُقَاطَعَةِ الْمَنْهِيِّ الْمُكَلَّفُ عَمَّا يُوجِبُهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الْقِيَامَ لِمَنْ يُعَادِيك بِتَرْكِهِ، وَمَفْهُومٌ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ إنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ غَيْرُ الْمُنْكَرِ، وَإِنَّمَا كَانَ هُنَاكَ مُبَاحٌ كَضَرْبِ الْغِرْبَالِ وَالْغِنَاءِ الْخَفِيفِ لَا يُبَاحُ التَّخَلُّفُ لِأَجْلِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَدْعُوُّ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَضَرَ ضَرْبَ الدُّفِّ وَلَا أَعْظَمَ مِنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَلَمَّا كَانَ الْأَكْلُ غَيْرَ لَازِمٍ لِمَنْ حَضَرَ الْوَلِيمَةَ قَالَ: (وَأَنْتَ) يَا حَاضِرَ الْوَلِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ (فِي الْأَكْلِ) إنْ كُنْت مُفْطِرًا (بِالْخِيَارِ) أَيْ لَا يَجِبُ عَلَيْك الْأَكْلُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَمُقَابِلُهُ الْوُجُوبُ.

قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي وُجُوبِ أَكْلِ الْمُفْطِرِ تَرَدُّدٌ، وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَاضِرِهَا: «فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ» أَيْ يَدْعُو مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ لِقَوْلِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْمُسْتَحَبُّ الْأَكْلُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ، وَلَا يَجُوزُ لِلصَّائِمِ الْفِطْرُ وَلَوْ حَلَفَ الزَّوْجُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إنْ أَفْطَرَ لِأَنَّهُ مِنْ الْعَمْدِ الْحَرَامِ.

(وَقَدْ أَرْخَصَ مَالِكٌ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (فِي التَّخَلُّفِ) عَنْ حُضُورِ وَلِيمَةِ النِّكَاحِ (لِكَثْرَةِ زِحَامٍ) وَالْمُعْتَمَدُ جَوَازُ التَّخَلُّفِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحُضُورِ عِنْدَ الزِّحَامِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَلَا سِيَّمَا كَثْرَةُ الزِّحَامِ غَالِبًا مِنْ السَّفَلَةِ وَمِمَّنْ تُزْرِي مُجَالَسَتُهُمْ، وَفُهِمَ مِنْ سَوَابِقِ الْكَلَامِ وَلَوَاحِقِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ حُضُورُ الْوَلِيمَةِ إلَّا بِإِذْنٍ.

قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يَدْخُلُ غَيْرُ مَدْعُوٍّ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ صَاحِبِ الْوَلِيمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوَلِيمَةِ.

[بَابٌ فِي السَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ وَالتَّنَاجِي]

ثُمَّ شَرَعَ فِي أُمُورٍ مُهِمَّةٍ جَامِعًا لَهَا بَابٌ بِقَوْلِهِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>