للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ بِالِاجْتِهَادِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ ذَلِكَ لَزِمَهُ، وَإِلَّا فَلَا.

وَقَالَ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ: الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ هُوَ الْبَيَانُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: ٤٤] وَرُوِيَ أَنَّ «عُمَرَ سَأَلَهُ عَنْ الْكَلَالَةِ: فَقَالَ: يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ» ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الْبَيَانِ مَا لَمْ يُتَوَصَّلْ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بِبَيَانِهِ. فَأَمَّا مَا جُعِلَ فِي الْكِتَابِ بَيَانُهُ، وَكَانَ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالتَّدَبُّرِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ بَيَانُهُ. قَالَ: وَمَعْقُولٌ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إبَانَةُ كُلِّ الْأَحْكَامِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إبَانَةُ الْأُصُولِ الَّتِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْفُرُوعِ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: مِنْ الْمُجْمَلِ مَا وُكِلَ الْعُلَمَاءُ إلَى اجْتِهَادِهِمْ فِي بَيَانِهِ مِنْ غَيْرِ سَمْعٍ يَفْتَقِرُ إلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: ٢٩] . فَلَمْ يَرِدْ سَمْعٌ بِبَيَانِ أَقَلِّ الْجِزْيَةِ حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّهَا. وَكَقَوْلِهِ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: ٩] فَأَجْهَلَ ذِكْرَ الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ، حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ سَاقِطٌ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ الْمُسْتَقِرَّةِ. وَقَدْ «سَأَلَ عُمَرَ عَنْ الْكَلَالَةِ فَقَالَ: يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ» فَوَكَلَهُ إلَى الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْبَيَانِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيَانِ الصَّادِرِ عَنْ الِاجْتِهَادِ، هَلْ يُؤْخَذُ قِيَاسًا أَوْ تَنْبِيهًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُؤْخَذُ تَنْبِيهًا مِنْ لَفْظِ الْمُجْمَلِ، وَشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِ، «لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِعُمَرَ: يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ» فَرَدَّهُ إلَيْهَا، لِيَسْتَدِلَّ بِمَا تَضَمَّنَتْهَا مِنْ تَنْبِيهٍ وَشَوَاهِدِ حَالٍ.

وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ قِيَاسًا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ بِنَاؤُهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، «لِأَنَّ عُمَرَ سَأَلَ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ. فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت» ، فَجَعَلَ الْقُبْلَةَ مِنْ غَيْرِ إرَادَةٍ كَالْمَضْمَضَةِ مِنْ غَيْرِ ازْدِرَادٍ. انْتَهَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>