للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَخَبِّرُونَا: مَا جَعَلَ عِلَّتَكُمْ أَوْلَى؟ فَإِنْ أَحَلْتُمْ ذَلِكَ أَرَيْنَاكُمْ زَعَمَ الْعِرَاقِيُّ عِلَّةَ الْبُرِّ أَنَّهُ مَكِيلٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنْكَرُ، وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا الْأَكْلُ دُونَ الْكَيْلِ، فَنَقُولُ: إنَّا تَرَكْنَا جَعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عِلَّةً لِأَنَّهُ يُخْرِجُنَا مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الَّذِي احْتَجْنَا إلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَكْلِ، وَالْعِرَاقِيَّ عَلَى الْكَيْلِ، فَرَجَّحْنَا هَذِهِ عَلَى تِلْكَ، فَإِنَّا وَجَدْنَا الْكَيْلَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْوَزْنِ، وَوَجَدْنَا مَا حُرِّمَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَوْزُونَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّهَبَ لَا يَجُوزُ بِالْوَرِقِ نَسِيئَةً، وَيَجُوزُ الذَّهَبُ بِالْمَوْزُونَاتِ نَسِيئَةً، وَقَرَّرَ هَذَا الْكَلَامَ ثُمَّ قَالَ: دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ حَرَامٌ لِمَعْنًى فِيهِ، كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَأَنَّهَا أَصْلُ النَّقْدَيْنِ وَقِيَمُ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَمِنْهُمَا فَرْضُ الزَّكَوَاتِ، فَلَمْ يَحْرُمَا لِأَنَّ هَاهُنَا أَمْرًا يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُهُمَا وَهُوَ الْوَزْنُ، بَلْ لِمَا فِيهِمَا مِنْ مَنَافِعِ النَّاسِ الَّتِي يُعَدُّ لَهُمَا [فِيهَا شَيْءٌ] سِوَاهُمَا مِنْ التَّقَلُّبِ وَالنَّقْدِ الَّذِي إلَيْهِ تَرْجِعُ الْمُعَامَلَةُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ إنَّمَا حُرِّمَا لِأَنَّهُمَا الْأَقْوَاتُ وَالْمَعَاشُ وَالْغِذَاءُ وَالطَّعَامُ. ثُمَّ جُرِّدَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الْأَكْلُ كَانَ أَعَمَّ الْأُمُورِ. وَقَدْ ضُمَّ إلَيْهَا فِي قَوْلٍ لِأَصْحَابِنَا أَجْزَاءُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ " الْبُيُوعِ الْقَدِيمِ ": وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا رِبًا إلَّا فِي ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ وَمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ، وَقَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي هَذَا أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَهَذَا جُمْلَةُ مَا أَرَدْنَا نَقْلَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ سُرَيْجٍ لِنُبَيِّنَ أَنَّ أَرْبَابَ الْمَذَاهِبِ بِأَجْمَعِهِمْ ذَهَبُوا إلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إلَى إيمَاءٍ وَنَصٍّ وَمُنَاسَبَةٍ: (قَالَ) : وَالْفَرْضُ الْآنَ أَنْ نُبَيِّنَ نَقْلًا عَنْ عُلَمَاءِ الشَّرْعِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْقَوْلَ بِالْوَصْفِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ، وَتَسْمِيَتَهُمْ ذَلِكَ عِلَّةً. وَكَذَلِكَ تَعْلِيلُ النَّقْدَيْنِ بِالنَّقْدِيَّةِ الْقَاصِرَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى التَّشْبِيهِ، إذْ التَّشْبِيهُ إنَّمَا يَقُومُ مِنْ فَرْعٍ وَأَصْلٍ، وَلَا فَرْعَ لِهَذَا الْأَصْلِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>