للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خَصْمِهِ فَلَا، لِأَنَّهُ يَدْعُو نَفْسَهُ إلَى مَذْهَبِ خَصْمِهِ. وَقَوْلُهُ " لَمْ أَظْفَرْ بِهِ " إظْهَارُ عَجْزٍ وَلَا يَحْسُنُ قَبُولُهُ فَيَجِبُ عَلَى خَصْمِهِ إظْهَارُ الدَّلِيلِ إنْ كَانَ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ حَاصِلٌ مَا ذَكَرَهُ إلْكِيَا، عَلَى طُولٍ فِيهِ، بَعْدَ أَنْ قَيَّدَ الْجَوَازَ عَدَمُ التَّعَلُّقِ بِالدَّلِيلِ بِشَرْطِ الْإِحَاطَةِ بِمَآخِذِ الْأَدِلَّةِ إمَّا مِنْ جِهَةِ الْعِبَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} [الأنعام: ١٤٥] فَجَعَلَ عَدَمَ الْوَحْيِ فِي الْأَمْرِ دَلِيلًا، إذْ هُوَ عَالِمٌ بِالْعَدَمِ.

وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ اشْتَهَرَتْ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، يَسْتَدِلُّونَ بِهَا فِي مَسَائِلَ لَا تُحْصَى فِي طُرُقِ النَّفْيِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْحُكْمُ غَيْرُ ثَابِتٍ، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَثَبَتَ بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ لِأَنَّهُ إمَّا نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ أَوْ قِيَاسٌ، وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَنْ نَصٍّ لَنُقِلَ وَلَمْ يُنْقَلْ وَلَوْ نُقِلَ لَعَرَفْنَاهُ بَعْدَ الْبَحْثِ وَالْفَحْصِ التَّامِّ وَالْإِجْمَاعُ مُنْتَفٍ لِوُجُودِ الْخِلَافِ بَيْنَنَا، وَالْقِيَاسُ مُنْتَفٍ لِقِيَامِ الْفَارِقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ قِيَاسُ عِلَّةِ الْخَصْمِ. وَنَازَعَ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ الْقُدْسِيُّ صَاحِبُ الرُّكْنِ الطَّاوُسِيُّ فِي كِتَابِهِ الْفُصُولِ " بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ النُّصُوصِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ وُجُوهِ الدَّلَالَات. وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُسْتَطَاعُ لِلْبَشَرِ. وَأَسْرَارُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ، وَمَظَانُّهَا دَقِيقَةٌ، وَعُقُولُ النَّاسِ فِي فَهْمِهَا مُخْتَلِفَةٌ، حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّمُ عَلَى الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ أَوْ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ مُجَلَّدَاتٍ كَثِيرَةً فِي فَوَائِدِهَا وَدَلَالَتِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْتَهِي.

وَلِذَلِكَ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُرْآنِ: هُوَ الَّذِي لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ» فَلَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ عِلْمَ عَدَمِ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ إلَّا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ، وَلَوْ فُرِضَ عِلْمُهُ بِهِ لَغَفَلَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، كَمَا رَوَوْا أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْكَرَ الْمُغَالَاةَ فِي الْمَهْرِ حَتَّى قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: كَيْفَ مُنِعْنَاهُ وَقَدْ أَعْطَانَا اللَّهُ ثُمَّ قَرَأْت: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: ٢٠] وَلَا شَكَّ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ حَافِظًا لِلْآيَةِ عَالِمًا بِهَا، وَلَكِنْ ذَهَبَتْ عَنْهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ، فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ عَسِرٌ جِدًّا، فَكَيْفَ يَصِيرُ قَوْلُهُ: " بَحَثْتُ فَلَمْ أَجِدْ " دَلِيلًا؟ ، وَقَدْ يَكُونُ عِلْمُهُ قَلِيلًا وَفَهْمُهُ نَاقِصًا وَقَوْلُهُ غَيْرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>