للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْدِمَ عَلَى وِلَايَةِ الْقَضَاءِ إلَّا مَنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ وَتَعَيَّنَ لِذَلِكَ أَوْ أَجْبَرَهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ عَلَى ذَلِكَ، فَلِلْإِمَامِ الْعَدْلِ إجْبَارُهُ إنْ كَانَ صَالِحًا، وَلَهُ أَنْ يَهْرُبَ وَيَمْتَنِعَ، إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، وَذَلِكَ إذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ سِوَاهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ الِامْتِنَاعُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ لِتَعَيُّنِ الْقِيَامِ بِهَذَا الْفَرْضِ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: ٥٥] فَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَرَادَ اسْتِصْلَاحَهُمْ وَدُعَاءَهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالسَّعْيِ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِأَرْزَاقِ الْعِبَادِ تَذِلُّ لَهُ الرِّقَابُ وَتَخْضَعُ لَهُ الْجَبَابِرَةُ وَلَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ بَابِهِ، فَلِهَذَا طَلَبَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ دُونَ الْإِمَارَةِ وَالْوِزَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوِلَايَاتِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ طَلَبَ ذَلِكَ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى الِاجْتِمَاعِ بِأَخِيهِ، فَإِنَّ مَنْزِلَتَهُ أَشْرَفُ مِنْ هَذَا وَأَكْمَلُ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْغَرَضُ حَاصِلًا فَعَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ أَعْنِي أَنَّ إخْوَتَهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الْمِيرَةِ وَطَلَبِ الْقُوتِ مِنْ عِنْدِهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَنَّ طَلَبَ الْقَضَاءِ يَنْقَسِمُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ]

(أَقْسَامُ طَلَبِ الْقَضَاءِ) وَطَلَبُ الْقَضَاءِ يَنْقَسِمُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ وَمُبَاحٌ وَمُسْتَحَبٌّ وَمَكْرُوهٌ وَحَرَامٌ.

فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ قَاضٍ، أَوْ يَكُونُ وَلَكِنْ لَا تَحِلُّ وِلَايَتُهُ، أَوْ لَيْسَ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ غَيْرُهُ، أَوْ لِكَوْنِهِ إنْ لَمْ يَلِ الْقَضَاءَ وَلِيَهُ مَنْ لَا تَحِلُّ وِلَايَتُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِيَدِ مَنْ لَا يَحِلُّ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى عَزْلِهِ إلَّا بِتَصَدِّي هَذَا إلَى الْوِلَايَةِ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّصَدِّي لِذَلِكَ وَالسَّعْيُ فِيهِ، إذَا قَصَدَ بِطَلَبِهِ حِفْظَ الْحُقُوقِ وَجَرَيَانَ الْأَحْكَامِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ فِي تَحْصِيلِهِ الْقِيَامَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا وَلَهُ عِيَالٌ فَيَجُوزُ لَهُ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ لِسَدِّ خَلَّتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَقْصِدُ بِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ عَنْ نَفْسِهِ فَيُبَاحُ لَهُ أَيْضًا، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ نَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ، وَنَقَلَ الثَّانِي فِي الْوَجْهِ الْمُسْتَحَبِّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>