للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَقْبَحُ مِنْهُ عَلَى الْقَاضِي، لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْشِدَهُ وَيُنَبِّهَهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَعْرِضُ عَنْهُ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ فِي شَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا فِي عَقْدِ حَائِطٍ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ أَنَّهُ لِفُلَانٍ مِنْهُمَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِمَا وَلَا يُسْمَعُ مِنْهُمْ أَنَّهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّمَا يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى الْحَائِطِ وَرَأَوْا عَقْدَهُ مِنْ نَاحِيَةِ دَارِ فُلَانٍ، أَوْ رَأَوْا عَلَيْهِ خَشَبَ سَقْفِ بَيْتِ فُلَانٍ، ثُمَّ يُفْتِي الْفَقِيهُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ هَذَا الْعَبْدَ وَهَذَا الْبَغْلَ مِلْكًا لِفُلَانٍ وَمَالًا مِنْ مَالِهِ وَبِيَدِهِ، لَا يَعْلَمُونَهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ وَلَا غَيْرِهِ إلَى حِينِ شَهَادَتِهِمْ هَذِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فَيَجِبُ أَنْ يَحْلِفَ صَاحِبُهُ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ أَنَّهُ مَا بَاعَهُ وَلَا وَهَبَهُ وَلَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ يَأْخُذُهُ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهِ إلَى هَذَا التَّطْوِيلِ، لَكِنِّي رَأَيْت هَذَا الْمَعْنَى قَدْ كَثُرَ عِنْدَ الْحُكَّامِ لَا يُنْكِرُونَهُ، بَلْ قَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ تَزَلْ الشَّهَادَاتُ تُؤَدَّى فِي هَذَا الْمَعْنَى هَكَذَا، وَالشُّيُوخُ مُتَوَافِرُونَ وَلَا يُنْكِرُونَهُ، وَقَدْ رَأَيْت جَوَابَ جَاهِلِ أَهْلِ الِاعْتِنَاءِ بِالْفُتْيَا وَقَدْ أَفْتَى فِي قَنَاةٍ ظَهَرَتْ فِي دَارٍ مَبِيعَةٍ بِقُرْبِ بِئْرِهَا، فَقَالَ: يُقَالُ لِلشُّهُودِ: وَهَلْ يَجِبُ بِذَلِكَ الرَّدُّ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالُوا يَجِبُ رُدَّتْ فَلَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي اسْتَفْتَى هُوَ فِيهِ إذَا كَانَ الشُّهُودُ يُسْأَلُونَ: هَلْ يَجِبُ الرَّدُّ أَمْ لَا.

وَهَذَا نِهَايَةٌ فِي الْغَبَاوَةِ، وَإِذَا فَشَتْ الْجَهَالَةُ فِي النَّاسِ ظُنَّتْ حَقًّا وَحُسِبَتْ سُنَّةً، وَأَنْكَرَ مَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَقَالَ: وَقَعَ فِي أَحْكَامِ ابْنِ زِيَادٍ، فِي رَجُلٍ قَامَ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى قَوْمٍ مِنْ النَّخَّاسِينَ فِي خَادِمٍ بَاعُوهَا مِنْهُ وَظَهَرَتْ بِهَا عُيُوبٌ، قَالَ الْقَاضِي: فَأَمَرْت مَنْ أَثِقُ بِهَا مِنْ النِّسَاءِ لِتَنْظُرَ إلَى تِلْكَ الْعُيُوبِ، فَاسْتَبَانَ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ أَنَّ الْعَيْبَ قَدِيمٌ بِمِثْلِهِ تُرَدُّ فَرُدَّتْ عَلَى النَّخَّاسِينَ.

قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: فَقَوْلُ الْقَاضِي حِكَايَةً عَنْ الْمَرْأَةِ أَنَّهُ عَيْبٌ قَدِيمٌ بِمِثْلِهِ تُرَدُّ جَهْلٌ لَا خَفَاءَ بِهِ، صَارَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُ الشَّاهِدَةَ وَالطَّبِيبَةَ وَالْمُفْتِيَةَ، وَلَيْسَ إلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، إلَّا إنْ كَانَتْ مَاهِرَةً بِالطِّبِّ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيُسْمَعُ مِنْهَا فِي قِدَمِهِ أَوْ حُدُوثِهِ، وَأَمَّا أَنْ تَقُولَ هِيَ: يَجِبُ بِهِ الرَّدُّ أَوْ لَا فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَيْهَا وَلَا تُسْأَلُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ الْعَيْبُ وَقِدَمُهُ بِشَهَادَةِ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِيهِ، أَنْ يَسْأَلَ تُجَّارَ الرَّقِيقِ هَلْ هُوَ عَيْبٌ؟ فَإِذَا شَهِدَ أَهْلُ الْبَصَرِ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ عَيْبٌ يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ كَثِيرًا، أَفْتَى الْفُقَهَاءُ حِينَئِذٍ بِالرَّدِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>