للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ الْحَقَّ، فَأَتَى بِبَيِّنَةٍ فَلَمْ يَعْرِفْهُمْ الْحَاكِمُ، فَقَالَ لَهُ الطَّالِبُ: إنْ كُنْت لَمْ تَعْرِفْهُمْ وَلَسْت أَقْدِرُ عَلَى تَعْدِيلِهِمْ فَدَعْنَا نَمْضِي إلَى غَيْرِك مِنْ الْحُكَّامِ، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: وَكَيْفَ بَعْدَ أَنْ أَنْكَرْت؟ وَأَتَى بِبَيِّنَةٍ لَمْ تَعْرِفْهُمْ وَلَمْ تَقْبَلْهُمْ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ تُعَجِّزَهُ وَتَقْطَعَ عَنِّي طَلَبَهُ وَتَعْنِيَتَهُ، وَكَيْفَ تُخْرِجُنَا مِنْ عَدْلِك إلَى مَنْ لَيْسَ مِثْلَك مِنْ الْحُكَّامِ؟ فَشَاوَرَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: هَذَا إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ إنْ كَانَتْ بَيِّنَةٌ يُشْبِهُ مِثْلُهَا أَنْ يَقْبَلَهَا حَاكِمٌ وَيَرُدَّهَا آخَرُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْذَنَ لِلطَّالِبِ فِي الذَّهَابِ لِغَيْرِهِ، فَلَعَلَّ حَقَّ الرَّجُلِ يَصِحُّ عِنْدَ غَيْرِ هَذَا الْحَاكِمِ، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُرْجَى قَبُولُ مِثْلِهَا فَلَا يَدَعَهُمَا يَمْضِيَانِ إلَى غَيْرِهِ وَيَسْتَمِرُّ فِي نَظَرِهِ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَهَذَا مِنْ لَحْنِ الْفِقْهِ وَلَوْ سُوِّغَ لِلنَّاسِ هَذَا وَشِبْهُهُ لَكَانَ عَوْنًا عَلَى التَّشْغِيبِ وَتَطْوِيلِ الْخِصَامِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَهُمْ لَا يُجِيزُونَ لِلطَّالِبِ التَّوْكِيلَ عَلَى الْخِصَامِ بَعْدَ مُجَالَسَةِ الْمَطْلُوبِ عِنْدَ الْحَاكِمِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَانْعِقَادِ الْمَقَالَاتِ، إلَّا لِعُذْرٍ بَيِّنٍ لِلْحَاكِمِ مِنْ مَرَضٍ مُثْبَتٍ أَوْ سَفَرٍ خَطِرٍ، وَقَدْ أَجَازُوا تَحْكِيمَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ رَجُلًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا، فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ لُبَابَةَ لَا يَنْبَغِي أَلَّا يَقُولَ بِهِ أَحَدٌ وَلَا يُبِيحَهُ حَاكِمٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إذْلَالِ الْحُكَّامِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَصْرِفَ مِنْ ابْتِدَاءِ التَّحَاكُمِ عِنْدَ رَجَاءِ أَنْ يُظْهِرَ حَقَّهُ عِنْدَ غَيْرِهِ، بَلْ يُعْجِزُهُ إنْ عَجَزَ وَيَقْطَعُ عَنْ الْمَطْلُوبِ تَعْنِيَتُهُ إيَّاهُ. وَكَانَ يَنْبَغِي لِلرَّاغِبِ فِي هَذَا أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ الْحَاكِمَ الَّذِي يَظُنُّ ظُهُورَ حَقِّهِ عِنْدَهُ، وَأَمَّا بَعْدَ ابْتِدَائِهِ عِنْدَ حَاكِمٍ ثُمَّ يُرِيدُ الْعُدُولَ عَنْهُ إلَى آخَرَ فَغَيْرُ سَائِغٍ لَهُ، وَقَدْ كَانَ مَنْ يَنْزِلُ بِهِ ذَلِكَ مِنْ الْحُكَّامِ بِقُرْطُبَةَ يُوَكِّلُ بِمَنْ بَلَغَهُ عَنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ مَنْ يَرُدُّهُ بِهِ لِإِتْمَامِ تَحَاكُمِهِ لَدَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيْرُهُ وَلَا يُسَامَحُ فِيمَا سِوَاهُ، وَالْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ نَحْوَ ذَلِكَ، قَالَ: وَهَلْ يُمْكِنُ أَحَدَ الْمُحَكِّمَيْنِ مِنْ الرُّجُوعِ عَنْ الرِّضَا بِقَوْلِ الْمُحَكَّمِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، بِخِلَافِ الْقَاضِي مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ الَّذِي يَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَى مَنْ كَرِهَ، يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ وَلَا عَدَمُ الرِّضَا بِتَمَامِ الْحُكُومَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ.

فَرْعٌ: وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ أَيْضًا فِي امْرَأَةٍ قَامَتْ عِنْدَ الْقَاضِي بِصَدَاقٍ لَمْ يُعْرَفْ مِنْ شُهُودِهِ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُمْ يَعْرِفُونَ عَيْنَهَا غَيْرَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَرَأَى أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَتَعَدَّلُونَ فَصَرَفَهَا عَنْ نَظَرِهِ، وَقَالَ لَهَا اذْهَبِي إلَى مَنْ شِئْت مِنْ الْحُكَّامِ فَلَعَلَّ غَيْرِي يَعْرِفُ بَيِّنَتَك، فَاسْتَحْسَنَ الْفُقَهَاءُ فِعْلَهُ وَقَالُوا: رُبَّ حَقٍّ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ حَاكِمٍ وَيَثْبُتُ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>