للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَصْلٌ: فَتَقَرَّرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ إذَا كَانَ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي إصْلَاحِ عُلَمَاءِ الْمَغَارِبَةِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَالْعِرَاقِيُّونَ كَثِيرًا مَا يُخَالِفُونَ الْمَغَارِبَةَ فِي تَعْيِينِ الْمَشْهُورِ، وَيُشْهِرُونَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ، وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ عَمَلُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَاسْتَمَرَّ تَشْهِيرُ مَا شَهَرَهُ الْمِصْرِيُّونَ وَالْمَغَارِبَةُ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَسَمِعْت بَعْضَ الْفُضَلَاءِ يُنْكِرُ لَفْظَةَ " مَشْهُورٌ " فَإِنَّهُ قَدْ يَشْتَهِرُ عِنْدَ النَّاسِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، قَالَ: وَإِنَّمَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا يَعْضُدُهُ الدَّلِيلُ.

وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: اُخْتُلِفَ فِي الْمَشْهُورِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ وَالْآخَرُ مَا كَثُرَ قَائِلُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَيُعَكَّرُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: إنَّ الْأَشْيَاخَ رُبَّمَا ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَيَقُولُونَ: إنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ هُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى.

وَلَيْسَ فِي هَذَا إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَقَدْ يَعْضُدُ الْقَوْلَ الْآخَرَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَرُبَّمَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَلَا يَقُولُ بِهِ الْمُعَارِضُ قَامَ عِنْدَ الْإِمَامِ لَا يَتَحَقَّقهُ هَذَا الْمُقَلِّدُ أَوْ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهُ الْعُدُولِ عَنْهُ، فَيَقُولُ: وَالصَّحِيحُ كَذَا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ وَصِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَيْسَ كُلُّ فَقِيهٍ يُسَوَّغُ لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِالْعَمَلِ بِمَا يَرَاهُ حُجَّةً مِنْ الْحَدِيثِ، وَلَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي سَلَكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ هَذَا الْمَسْلَكَ فَأَخَذَ بِأَحَادِيثَ تَرَكَهَا الشَّافِعِيُّ عَمْدًا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِصِحَّتِهَا لِمَانِعٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، وَخَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ ابْنُ حَزْمٍ كِتَابًا اعْتَرَضَ فِيهِ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَاهَا، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا. وَسَرَدَ الْأَحَادِيثَ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَوَقَفَ عَلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ لِلْقَاضِي أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ الرَّفِيعِ التُّونِسِيِّ.

فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى الْمُعَارِضِ انْتِفَاؤُهُ، وَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَيُعَكِّرُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَشْهُورَ مَا كَثُرَ قَائِلُهُ أَنَّ بَعْضَ الْمَسَائِلِ وَجَدْنَا الْمَشْهُورَ فِيهَا الْمَنْعَ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْجَوَازِ، مِثْلَ مَسْأَلَةِ الْتِزَامِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا إرْضَاعَ وَلَدِهَا حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ عِنْدَ الطَّلَاقِ، وَالْتِزَامِ نَفَقَتِهِ، وَكِسْوَتِهِ سَنَتَيْنِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ إلَّا فِي الْحَوْلَيْنِ فَقَطْ وَيَسْقُطُ الزَّائِدُ، وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَحْكُمُ فُقَهَاءِ الْأَنْدَلُسِ إمْضَاءُ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ. انْتَهَى.

قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وَمَسَائِلُ الْمَذْهَبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشْهُورَ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ، وَأَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يُرَاعِي مِنْ الْخِلَافِ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ لَا مَا كَثُرَ

<<  <  ج: ص:  >  >>