للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْهَوَى فِي الْحُكْمِ وَالْفُتْيَا فَحَرَامٌ إجْمَاعًا، نَعَمْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَتَسَاوَتْ وَعَجَزَ عَنْ التَّرْجِيحِ هَلْ يَتَسَاقَطَانِ أَوْ يَخْتَارُوا وَاحِدًا مِنْهُمَا يُفْتِي بِهِ؟ .

قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَخْتَارُ أَحَدَهُمَا يُفْتِي بِهِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَهُمَا يَحْكُمُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ أَرْجَحَ عِنْدَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْفُتْيَا شَرْعٌ عَامٌّ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَالْحُكْمُ يَخْتَصُّ بِالْوَقَائِعِ الْجُزْئِيَّةِ، فَإِذَا جَازَ الِاخْتِيَارُ فِي الشَّرَائِعِ الْعَامَّةِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فِي الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَهَذَا مُقْتَضَى الْفِقْهِ وَالْقَوَاعِدِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يُتَصَوَّرُ الْحُكْمُ بِالرَّاجِحِ وَغَيْرِ الرَّاجِحِ، وَلَيْسَ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، بَلْ ذَلِكَ بَعْدَ بَذْلِ الْجَهْدِ وَالْعَجْزِ عَنْ التَّرْجِيحِ وَحُصُولِ التَّسَاوِي، أَمَّا الْفُتْيَا وَالْحُكْمُ بِمَا هُوَ مَرْجُوحٌ فَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَقَالَ أَيْضًا فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ: إنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الْمُسْتَوِيَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَلَا مَعْرِفَةٍ بِأَدِلَّةِ الْقَوْلَيْنِ إجْمَاعًا، فَتَأَمَّلْ هَذَا مَعَ مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِهِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ بَذْلِ الْجَهْدِ وَالْعَجْزِ عَنْ التَّرْجِيحِ.

وَقَالَ عِزُّ الدِّينِ عَبْدُ السَّلَامِ الشَّافِعِيُّ: مِنْ كَانَ لِإِمَامِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ أَيَّهمَا أَحَبَّ، نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ النُّورِ التُّونِسِيُّ فِي الْفَتَاوَى.

[فَصْلٌ عَنْ الرَّجُلِ إذَا لَمْ يَسْتَبْحِرْ فِي الْعِلْمِ هَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا رَآهُ]

فَصْلٌ: وَفِي الْفَتَاوَى لِابْنِ عَبْدِ النُّورِ.

وَسُئِلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ أَبِي زَيْدٍ عَنْ الرَّجُلِ إذَا لَمْ يَسْتَبْحِرْ فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا نَظَرَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَالْمُوَطَّأِ وَالْمُخْتَصَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ يُسْأَلُ عَنْ النَّازِلَةِ، هَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا رَآهُ فِي هَذِهِ الدَّوَاوِينِ لِمَالِكٍ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ بِاخْتِيَارٍ لِسَحْنُونٍ أَوْ لِابْنِ سَحْنُونٍ أَوْ لِابْنِ الْمَوَّازِ وَشَبَهِهِمْ؟

فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ نَازِلَةٍ وَجَدَهَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ فَلْيُفْتِ بِهَا وَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَيْهَا إنْ نَزَلَتْ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَ مِثْلَهَا لِابْنِ الْقَاسِم أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِ أَوْ لَمْ يَجِدْهَا إلَّا لِسَحْنُونٍ أَوْ لِابْنِهِ أَوْ لِابْنِ الْمَوَّاز أَوْ لِأَصْبَغَ أَوْ لِابْنِ عَبْدُوسٍ أَوْ شَبَهِ هَؤُلَاءِ فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يُخْتَلَفُ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعَيَّنِينَ فِيهِ اخْتِيَارٌ مِثْلُ سَحْنُونٍ وَأَصْبَغَ وَمَنْ دُونَهُمَا، مِنْ ابْنِ عَبْدُوسٍ وَابْنِ سَحْنُونٍ وَابْنِ الْمَوَّازِ وَنَحْوِهِمْ، فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِاخْتِيَارِ مَنْ وَجَدَ مِنْ اخْتِيَارِ هَؤُلَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -، وَلَا سِيَّمَا إنَّك قُلْت وَالْبَلَدُ عَارٌ، وَلَا يَرُدُّهُ إلَّا إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ أَوْ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَ إلَى مَنْ اتَّسَعَ فِي الْعِلْمِ وَاسْتَبْحَرَ فَأَفْتَاهُ بِشَيْءٍ وَسِعَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَيَحْمِلَ عَلَيْهِ مَنْ سَأَلَهُ أَيْضًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>