للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بِمُعَايَنَتِهِ، وَقَدْ يَكْثُرُ هَذَا فِي بَابِ دَعْوَى الضَّرَرِ.

وَقَدْ رَكِبَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي أَمْرٍ لِيَنْظُرَ فِيهِ فَذُكِرَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَحَكَمَ فِيهِ، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يَنْظُرْ فِيهِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْثِرَ الدِّخَالَ عَلَيْهِ وَالرِّكَابَ مَعَهُ وَلَا مَنْ بِحَضْرَتِهِ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ كَانَتْ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ أَمَانَةٍ وَنَصِيحَةٍ وَفَضْلٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ كَبُرَتْ نَفْسُهُ وَعَظُمَ عِنْدَهُ سُلْطَانُهُ.

وَيَكْفِي الْقَاضِيَ فِي مَعْرِفَتِهِ قُبْحَ حَالِ الرَّجُلِ أَنْ يَصْحَبَهُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا دَفْعِ مَظْلِمَةٍ وَلَا خُصُومَةٍ، وَحَقٌّ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَلْزَمُونَ ذَلِكَ لِاسْتِئْكَالِ أَمْوَالِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ يُرُونَ النَّاسَ أَنَّ لَهُمْ عِنْدَ الْقَاضِي مَنْزِلَةً وَلِهَذَا قَالُوا: مَنْ تَرَدَّدَ إلَى الْقَاضِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ فَذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي عَدَالَتِهِ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَجْلِسُ فِي دِهْلِيزِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَأْكَلَةً لِلنَّاسِ وَحِيلَةً عَلَيْهِمْ، وَلَا يُبِيحُ مَجْلِسَهُ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَيَّنَ فِيهِ لِمُجَالَسَتِهِ أَوْ يَتَعَلَّمَ أَحْكَامَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ خُلُقِ الْمُسْتَأْكِلِينَ، وَإِنَّمَا يُجَالِسُهُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُدُولُ الَّذِينَ يَحْتَاجُ إلَى فِقْهِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَرَى أَنَّ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً مِثْلَ أَنْ يَدْعُوَ شَخْصًا مُعَيَّنًا لِلتَّزْكِيَةِ وَالتَّجْرِيحِ وَالشَّهَادَةِ وَالْكَشْفِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصْغِيَ بِأُذُنِهِ لِلنَّاسِ فِي النَّاسِ فَيَفْتَحُ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ شَرًّا عَظِيمًا، وَتَفْسُدُ عَقِيدَتُهُ فِي أَهْلِ الْفَضْلِ الْبُرَآءِ مِمَّا قِيلَ فِيهِمْ عِنْدَهُ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مَنْ يُخْبِرُهُ بِمَا يَقُولُ النَّاسُ فِي أَحْكَامِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَسِيرَتِهِ وَشُهُودِهِ، فَإِذَا أَخْبَرَهُ بِشَيْءٍ فَحَصَ عَنْهُ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ قُوَّةً عَلَى أَمْرِهِ.

[فَصْل فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي وَمَسْكَنِهِ]

الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَجْلِسِهِ وَمَسْكَنِهِ وَذَلِكَ أُمُورٌ

مِنْهَا: أَنْ يَجْلِسَ لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْجِدِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ؛ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ عَنْ الْقَاضِي وَأَسْهَلُ لِلنَّاسِ لِلدُّخُولِ عَلَيْهِ، فَأَجْدَرُ أَنْ لَا يُحْجَبَ عَنْهُ أَحَدٌ وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَالنَّجَاسَةُ فِي اعْتِقَادِهِ لَا عَلَى ظَاهِرِ بَدَنِهِ فَلَا يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْهُ شَيْءٌ.

وَالْحَائِضُ مُسْلِمَةٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَحْتَرِزُ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَتُخْبِرُ أَنَّهَا حَائِضٌ، فَإِذَا أَخْبَرَتْ الْقَاضِيَ لَا يُكَلِّفُهَا دُخُولَ الْمَسْجِدِ، لَكِنْ يَخْرُجُ إلَيْهَا أَوْ يَأْتِي إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَيَنْظُرُ فِي خُصُومَتِهَا، كَمَا لَوْ وَقَعَتْ الْخُصُومَةُ فِي الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إحْضَارُهَا فِي الْمَسْجِدِ لَكِنْ يَخْرُجُ الْقَاضِي لِسَمَاعِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ مِنْ الشُّهُودِ وَالْإِشَارَةِ إلَيْهَا، فَكَذَا هَذَا.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) : يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَجْلِسَ لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ؛ لِأَنَّ فِي الْخُصُومِ الْغُرَبَاءَ وَأَهْلَ الْبَلْدَةِ، وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ أَشْهَرُ الْمَوَاضِعِ وَلَا يَخْفَى ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ فِي بَيْتِهِ وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ، وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَيُجْلِسَ مَعَهُ مَنْ كَانَ يَجْلِسُ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَلَسَ وَحْدَهُ تَتَمَكَّنُ فِيهِ تُهْمَةُ الْمِيلِ. وَإِذَا دَخَلَ الْقَاضِي الْمَسْجِدَ هَلْ يُسَلِّمُ عَلَى النَّاسِ؟ قِيلَ إنْ سَلَّمَ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ تَرَكَ وَسِعَهُ لِتَبْقَى الْهَيْبَةُ وَتَكْثُرَ الْحِشْمَةُ، وَبِهَذَا جَرَى الرَّسْمُ أَنَّ الْوُلَاةَ وَالْأُمَرَاءَ إذَا دَخَلُوا لَا يُسَلِّمُونَ لِتَبْقَى الْهَيْبَةُ وَتَكْثُرَ الْحِشْمَةُ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الْخَصَّافُ.

وَقِيلَ: عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ وَلَا يَسَعُهُ التَّرْكُ، وَهَكَذَا الْوَالِي وَالْأَمِيرُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ، وَلَا يَسَعُهُ تَرْكُ السُّنَّةِ لِلْعَمَلِ فَأَمَّا إذَا جَلَسَ نَاحِيَةً مِنْ الْمَسْجِدِ لِلْفَصْلِ وَالْحُكْمِ لَا يُسَلِّمُ عَلَى الْخُصُومِ وَلَا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ " اُنْظُرْ الْمُحِيطَ.

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا مَسْكَنُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَسْطَ الْبَلَدِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ الْقَصْدُ إلَيْهِ.

<<  <   >  >>