للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الثَّامِنُ: يُتَصَوَّرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ صُوَرِ الْقَبْضِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَبْضٍ اُخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ، كَمَا إذَا أَذِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَكِيلَ مَا اشْتَرَاهُ مَكِيلًا فَفَعَلَ، فَإِنَّ فِي صِحَّةِ الْقَبْضِ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ.

قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ: فَلَوْ اشْتَرَى قَمْحًا مَثَلًا وَشَرَطَ فِيهِ الْكَيْلَ وَكَانَ الْبَائِعُ قَدْ اشْتَرَاهُ مَكِيلًا وَهُوَ فِي مِكْيَالِ الْبَائِعِ فَهَلْ يُغْنِي ذَلِكَ عَنْ التَّجْدِيدِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.

رَجَّحَ جَمْعٌ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ، وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ وَالْمُحِيطِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ جَوَازُ ذَلِكَ ذَكَرَهُ اللَّخْمِيُّ فِي التَّبْصِرَةِ فِي السَّلَمَ الثَّانِيَ.

فَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَارْتَفَعَتْ قَضِيَّةٌ مِنْ هَاتَيْنِ أَعْنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا لِحَاكِمٍ شَافِعِيٍّ مَثَلًا فَحَكَمَ بِصِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفِ الَّذِي لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فِيهِ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الْقَبْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْقَبْضِ، وَلَوْ حَكَمَ بِصِحَّةِ الْقَبْضِ بِطَرِيقِهِ صَحَّ، وَلَوْ حَكَمَ بِمُوجَبِ الْقَبْضِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ قَالَ: إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْحَاكِمُ عَقِيدَتَهُ فِي الْقَبْضِ وَيَقُولَ: حَكَمْت بِمُوجَبِ الْقَبْضِ فِي ذَلِكَ عَلَى مُوجَبِ مُعْتَقَدِي، فَلَوْ كَانَ مُعْتَقَدُ الْحَاكِمِ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَمُعْتَقَدُهُ أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ بِهِ عَقْدُ الْبَيْعِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ كَانَ الْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْقَبْضِ حِينَئِذٍ مُقْتَضَاهُ اسْتِقْرَارُ الْبَيْعِ بِهَذَا الْقَبْضِ.

التَّاسِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَتَضَمَّنُ أَشْيَاءَ لَا يَتَضَمَّنُهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ.

فَمِنْهَا: الْحُكْمُ بِإِلْزَامِهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ إذَا صَدَرَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ.

وَبَيَانُهُ أَنَّ الْحَنَفِيَّ وَالْمَالِكِيَّ إذَا حَكَمَا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ أَعْنِي بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الْبَيْعِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ إثْبَاتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَلَا فَسْخَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يُجَامِعُ ذَلِكَ.

فَأَمَّا لَوْ حَكَمَ الْحَنَفِيُّ أَوْ الْمَالِكِيُّ بِمُوجَبِ الْبَيْعِ وَالْإِلْزَامِ بِمُقْتَضَاهُ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى الْحَاكِمِ الشَّافِعِيِّ تَمْكِينُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مِنْ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَلَيْسَ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَا لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ وَهُوَ الْإِيجَابُ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُنْظَرْ إلَى أَنَّ بَعْضَ الْقُضَاةِ يَنْفِي خِيَارَ الْمَجْلِسِ، فَإِذَا نَظَرْنَا إلَى ذَلِكَ فَذَاكَ لِمُدْرِكٍ آخَرَ.

وَمِنْهَا: الْقَرْضُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ إذَا وَجَدَ مُقْتَضِيَهَا، وَيَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ فَيُنْظَرُ فِيهِ حِينَئِذٍ إلَى عَقِيدَةِ الْحَاكِمِ فِي حُكْمِهِ بِالْمُوجَبِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ عَقِيدَتِهِ أَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ وَأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْمُقْرِضُ فِيمَا أَقْرَضَهُ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ حَكَمَ بِصِحَّةِ الْقَرْضِ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى الْمُقْرِضِ الرُّجُوعُ فِي الْقِيَامِ عِنْدَ قَاضٍ حَنَفِيٍّ أَوْ شَافِعِيٍّ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرَى الرُّجُوعَ فِيهِ إذْ هُوَ قَرْضٌ صَحِيحٌ وَيَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَلَا يُنَافِي الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ الْقِيَامُ بِالرُّجُوعِ فِي الْقَرْضِ، وَإِنْ حَكَمَ بِالْمُوجَبِ وَالْإِلْزَامِ بِمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ امْتَنَعَ عَلَى الْمُقْرِضِ الرُّجُوعُ فِي الْعَيْنِ الْمُقْرَضَةِ الْبَاقِيَةِ عِنْدَ الْمُقْرَضِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْقَرْضِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ.

وَمِنْهَا: الرَّهْنُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ بِالصِّحَّةِ لَا يَمْنَعُ الْمُخَالِفَ فِي الْآثَارِ مِنْ الْعَمَلِ بِآثَارِهِ عَلَى عَقِيدَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُنَاقِضُ شَيْئًا مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَإِنْ صَدَرَ فِيهِ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ وَالْإِلْزَامِ بِمُقْتَضَاهُ نُظِرَ إلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مُوجَبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ الْإِلْزَامُ امْتَنَعَ عَلَى الْمُخَالِفِ الْعَمَلُ بِمَا يُخَالِفُ عَقِيدَةَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ.

وَمِثَالُهُ: لَوْ حَكَمَ شَافِعِيٌّ أَوْ حَنَفِيٌّ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ وَحَصَلَ فِيهِ إعَادَتُهُ إلَى الرَّهْنِ بِعَارِيَّةٍ بَعْدَ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا لِمَنْ يَرَى فَسْخَ الرَّهْنِ بِالْعَوْدِ إلَى الرَّاهِنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَنْ يُعِيدَهُ اخْتِيَارًا وَيَفُوتُ الْحَقُّ فِيهِ بِإِعْتَاقِ الرَّاهِنِ مَثَلًا وَقِيَامِ الْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ وَإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّاهِنِ فِي الْوَطْءِ أَنْ يَفْسَخَهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ لَيْسَ مُنَافِيًا لِلْفَسْخِ بِمَا ذُكِرَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ أَوْ شَافِعِيٌّ بِمُوجَبِ الرَّهْنِ عِنْدَهُ وَالْإِلْزَامِ بِمُقْتَضَاهُ

<<  <   >  >>