للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[فَصْلٌ الْفَرْق بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ]

فَصْلٌ) :

فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالثُّبُوتِ إنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ وَهَلْ الثُّبُوتُ حُكْمٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ فَهَلْ هُوَ عَيْنُ الْحُكْمِ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ ظَاهِرًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهَلْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الثُّبُوتِ أَمْ لَا؟ جَوَابُهُ: أَنَّ الثُّبُوتَ هُوَ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَى ثُبُوتِ السَّبَبِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَإِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ السَّيِّدَ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ، أَوْ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ أَوْ بِصَدَاقٍ فَاسِدٍ، أَوْ أَنَّ الشَّرِيكَ بَاعَ حِصَّتَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ، أَوْ أَنَّهَا زَوْجَةٌ لِلْمَيِّتِ حَتَّى تَرِثَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ ثُبُوتِ أَسْبَابِ الْحُكْمِ، فَإِنْ بَقِيَتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ رِيبَةٌ أَوْ لَمْ تَبْقَ وَلَكِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ الْخَصْمَ هَلْ لَهُ مَطْعَنٌ أَوْ مُعَارِضٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ ثُبُوتًا وَلَا حُكْمًا لِوُجُودِ الرِّيبَةِ أَوْ لِعَدَمِ الْأَعْذَارِ، وَإِنْ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى سَبَبِ الْحُكْمِ أَوْ انْتَفَتْ الرِّيبَةُ وَحَصَلَتْ الشُّرُوطُ فَهَذَا هُوَ الثُّبُوتُ فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ حُكْمٌ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ أَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ يُرِيدُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الثُّبُوتِ.

قَالَ بُرْهَانُ الدِّينِ صَاحِبُ الْمُحِيطِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ حَكَمْتُ أَوْ قَضَيْتُ لَيْسَ بِشَرْطٍ.

وَقَوْلَهُ ثَبَتَ عِنْدِي يَكْفِي وَكَذَا إذَا قَالَ ظَهَرَ عِنْدِي أَوْ صَحَّ عِنْدِي أَوْ عَلِمْت فَهَذَا كُلُّهُ حُكْمٌ هُوَ الْمُخْتَارُ.

وَفِي الْكُبْرَى: لَوْ قَالَ: ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ لِهَذَا عَلَى هَذَا كَذَا. قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا يَكُونُ حُكْمًا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو عَاصِمٍ الْعَامِرِيُّ صَاحِبُ الْهَادِي وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحُلْوَانِيُّ بِأَنَّهُ حُكْمٌ وَالْفَتْوَى عَلَيْهِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ كَمَا ذَكَرْنَا.

وَذُكِرَ فِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ قَوْلُهُ " ثَبَتَ عِنْدِي حُكْمٌ لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الثُّبُوتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوَبِالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْبَيِّنَةِ يُخَالِفُ الْحُكْمَ بِالْإِقْرَارِ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَالْقَوْلُ الشَّاذُّ يَرَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ مُغَايِرَةٌ لِحَقِيقَةِ الثُّبُوتِ، وَمَعَ تَغَايُرِ الْحَقَائِقِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِحُصُولِ أَحَدِ الْمُتَغَايِرَيْنِ عِنْدَ حُصُولِ الْآخَرِ، إلَّا أَنْ يَجْزِمَ بِالْمُلَازَمَةِ، وَاللُّزُومُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ حُصُولِ الْآخَرِ غَيْبَةُ مَا عَلِمْنَا بِهَا فَيَتَوَقَّفُ حَتَّى يَحْصُلَ الْيَقِينُ بِالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ حَكَمَ هَذَا فِي الصُّوَرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا الَّتِي حَكَمَ الْحَاكِمُ فِيهَا بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ.

وَأَمَّا الصُّوَرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا كَثُبُوتِ الْقِيمَةِ فِي الْإِتْلَافِ وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ وَثُبُوتِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ فِي الذِّمَّةِ وَعَقْدِ الْقِرَاضِ وَثُبُوتِ السَّرِقَةِ لِلْقَطْعِ فَالثُّبُوتُ الْكَامِلُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ جَمِيعِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ إنْشَاءَ حُكْمٍ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، بَلْ أَحْكَامُ هَذِهِ الصُّوَرِ مُقَرَّرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ إجْمَاعًا، وَوَظِيفَةُ الْحُكَّامِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ إنَّمَا هُوَ التَّنْفِيذُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَعْنَاهُ.

وَأَمَّا فِيمَا عَدَا التَّنْفِيذَ: فَالْحَاكِمُ وَالْمُفْتِي فِيهِ سَوَاءٌ، لَيْسَ هَا هُنَا حُكْمٌ اسْتَنَابَ صَاحِبُ الشَّرْعِ فِيهِ الْحَاكِمَ أَصْلًا أَلْبَتَّةَ، بَلْ هَذِهِ أَحْكَامٌ تَتْبَعُ أَسْبَابَهَا كَانَ ثَمَّ حَاكِمٌ أَمْ لَا، نَعَمْ الَّذِي يَقِفُ عَلَى الْحَاكِمِ التَّنْفِيذُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ فِي الدَّيْنِ وَشَبَهِهِ، فَلَوْ دَفَعَ الْمُتْلِفُ الْقِيمَةَ وَالْمَدِينُ الدَّيْنَ وَسَلَّمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ اُسْتُغْنِيَ عَنْ مُنَفِّذٍ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الْحَاكِمِ فِي الصُّوَرِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ تَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ وَتَحْرِيرِ أَسْبَابٍ، كَفَسْخِ الْأَنْكِحَةِ إذَا كَانَ تَفْوِيضُهَا لِلنَّاسِ يُؤَدِّي إلَى التَّهَارُجِ وَالْقِتَالِ كَالْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ، مَعَ أَنَّ التَّعَازِيرَ مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي يَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ فِي تَقْدِيرِ التَّعْزِيرِ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ وَالْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَظَهَرَ أَنَّ الثُّبُوتَ غَيْرُ الْحُكْمِ قَطْعًا، وَقَدْ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ وَقَدْ لَا يَسْتَلْزِمُ، وَقَدْ تَكُونُ الصُّورَةُ قَابِلَةً لِاسْتِلْزَامِ الْحُكْمِ وَقَدْ لَا تَكُونُ قَابِلَةً كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي صُوَرِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ خَطَأٌ قَطْعًا، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ تَخْصِيصُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَتَأْوِيلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنًى صَحِيحٍ، وَهُوَ بَيِّنٌ لِمَنْ أَنْصَفَ.

فَائِدَةٌ: اُخْتُلِفَ فِي الْحُكْمِ وَالثُّبُوتِ هَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ الثُّبُوتُ غَيْرُ الْحُكْمِ؟ وَالْعَجَبُ أَنَّ الثُّبُوتَ

<<  <   >  >>