للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كِتَابٍ مِنْ مُبَايَعَةٍ أَوْ وَقْفٍ أَوْ تَمْلِيكٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ صَدَاقٍ أَوْ طَلَاقٍ لَا يُكْتَفَى بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الشَّخْصِ: أَنَا فُلَانٌ، وَلَا بِالْحِلْيَةِ عَلَى الشُّهُودِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ الْحِلْيَةَ تَتَغَيَّرُ وَالنَّاسُ يَتَشَابَهُونَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ ذَكِيًّا فَطِنًا عَارِفًا؛ لِئَلَّا يَدْخُلَ الضَّرَرُ عَلَى النَّاسِ بِجَهْلِهِ بِالصِّنَاعَةِ.

(فَصْلٌ) :

وَإِذَا كَتَبَ الْمُبَايَعَةَ فَلْيُحَدِّدْ الْمَكَانَ وَلْيَذْكُرْ الْجُدْرَانَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ وَالْمُشْتَرَكَةَ وَطُرُقَهُ وَمَدْخَلَهُ وَيَذْكُرُ مَحَلَّهُ مِنْ الْبَلَدِ، وَيَنْبَغِي لِلْكَاتِبِ إذَا سَافَرَ إلَى جِهَةٍ لَا يَعْرِفُ اصْطِلَاحَ أَهْلِهَا أَنْ لَا يَتَصَدَّى لِلْكِتَابَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ سُنَّتَهُمْ وَمَذْهَبَهُمْ وَنَقُودَهُمْ وَمِكْيَالَهُمْ وَأَسْمَاءَ الْأَصْقَاعِ وَالطُّرُقِ وَالشَّوَارِعِ، فَبِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ يَتِمُّ لَهُ الْأَمْرُ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ اسْمَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: ١١١] إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي ذِمِّيًّا وَالْبَائِعُ مُسْلِمًا.

[فَصْلٌ فِي أُجْرَةِ الْكَاتِبِ]

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى كَتْبِ الْوَثَائِقِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ.

وَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ قَوْله تَعَالَى {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: ٢٨٢] ؛ وَلِأَنَّ مِنْ اُسْتُبِيحَ عَمَلُهُ وَكَدُّ خَاطِرِهِ كُلَّمَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ إنْسَانٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهِ وَيَسْتَغْرِقُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا غَايَةُ الضَّرَرِ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْأَخْذِ عَلَى الْكِتَابَةِ فَالْأَوْلَى لِمَنْ قَدَرَ وَاسْتَغْنَى التَّنَزُّهُ عَنْ ذَلِكَ وَاحْتِسَابُ عَمَلِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ فَنَقُولُ: وَجْهُ الْإِجَارَةِ أَنْ يُسَمِّيَ الْأُجْرَةَ وَيُعَيِّنَ الْعَمَلَ، فَإِنْ وَافَقَ الْكَاتِبُ الْمَكْتُوبَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَجَاءَ الْكِتَابُ عَلَى مَا اتَّفَقَ مَعَهُ عَلَيْهِ فَهِيَ إجَارَةٌ صَحِيحَةٌ، وَيَجُوزُ بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ مَا لَمْ يَكُنْ الْمَكْتُوبُ لَهُ مُضْطَرًّا إلَى الْكَاتِبِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ؛ وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِذَلِكَ، فَالْأَوْلَى حِينَئِذٍ الْمُسَامَحَةُ، وَلَا يَرْفَعُ عَلَى النَّاسِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّ لِمَا عَلِمَ مِنْ ضَرُورَتِهِمْ إلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ فَهِيَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ، أَمَّا إنْ لَمْ يُوَافِقْ الْكَاتِبُ الْمَكْتُوبَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ فَهَاهُنَا نَظَرٌ.

وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَالِبُ كِتَابَاتِ النَّاسِ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّ الْمُوَثِّقِينَ يَتَعَفَّفُونَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحَيَاءِ وَالْمُرُوءَةِ؛ وَلِئَلَّا يَتَنَزَّلُوا مَنْزِلَةَ أَهْلِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ فِي الْمُكَايَسَةِ وَالْمُسَامَحَةِ، وَهَذَا غَرَضٌ حَسَنٌ وَمَذْهَبٌ جَمِيلٌ إنْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ يَقْنَعُ بِمَا أُعْطِيَ عَلَى عَمَلِهِ بَعْدَ إكْمَالِهِ وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مِنْ الْمُشَاحَّةِ حِينَئِذٍ مَا هُوَ أَقْبَحُ حَالًا مِمَّا لَوْ ابْتَدَأَ الْمُشَارَطَةَ، وَهَذَا النَّوْعُ لَا يُسَمَّى إجَارَةً حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ مَا يُعَاوَضُ بِهِ مَجْهُولٌ عِنْدَ الْكَاتِبِ؛ لِأَنَّ عَطَاءَ النَّاسِ مُخْتَلِفٌ بِحَسَبِ أَقْدَارِهِمْ وَمَبْلَغِ مُرُوءَتِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْكَاتِبِ عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرُدُّ

الْمُعَاوَضَةَ عَلَى عَمَلِهِ، وَأَنْ يُثَابَ عَلَى ذَلِكَ فَعَمَلُهُ مَحْمُولٌ عَلَى طَلَبِ الثَّوَابِ مِنْ الْمَكْتُوبِ لَهُ بِحَسَبِ مَا أَدَّتْهُ مُرُوءَتُهُ إلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُكَارَمَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْمُكَايَسَةِ وَالْمُشَاحَّةِ، وَذَلِكَ أَصْلُ هِبَةِ الثَّوَابِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ أَعْطَاهُ الْمَكْتُوبُ لَهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ لَزِمَهُ الْقَبُولُ، وَإِنْ أَعْطَاهُ أَقَلَّ فَالْكَاتِبُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَبُولِ وَاسْتِرْجَاعِ مَا عَمِلَ، كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَكْتُوبِ لَهُ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِرْجَاعُ الْكِتَابِ لِكَوْنِهِ تَضَمَّنَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ أَوْ ثَبَتَ فِيهِ حَقٌّ فَيَكُونُ ذَلِكَ قُوتًا وَيُجْبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَمَا يُفْعَلُ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ.

[فَصْلٌ لِلْقَاضِي أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى كَتْبِ السِّجِلَّاتِ وَالْمَحَاضِرِ]

(فَصْلٌ) :

وَلِلْقَاضِي أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى كَتْبِ السِّجِلَّاتِ وَالْمَحَاضِرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْوَثَائِقِ؛ إذْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَإِيصَالُ الْحَقِّ إلَى أَهْلِهِ لَا الْكَتَبَةِ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَطِيبُ لَهُ لَوْ أَخَذَ مَا يَجُوزُ أَخْذُهُ لِغَيْرِهِ.

قَالَ فِي الْمُلْتَقَطِ: لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ مَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ، وَمَا قِيلَ فِي كُلِّ أَلْفٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لَا نَقُولُ بِهِ وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالْفِقْهِ، وَأَيُّ

<<  <   >  >>