للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مَسْأَلَةٌ) :

وَيَجُوزُ رَدُّ الْيَمِينِ إلَى الْمُدَّعِي عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ.

وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْيَمِينِ جَائِزٌ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا، فَلَمَّا جَازَ الصُّلْحُ جَازَ أَيْضًا رَدُّ الْيَمِينِ إلَى الْمُدَّعِي عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى: لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ. فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إنْ حَلَفْتَ أَنَّهَا لَكَ عَلَيَّ أَدَّيْتُهَا إلَيْكَ.، فَحَلَفَ وَأَدَّاهَا إلَيْهِ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي اشْتَرَطَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ.

[فَصْلٌ النُّكُولُ نَوْعَانِ]

(فَصْلٌ) :

النُّكُولُ نَوْعَانِ: حَقِيقَةً، وَحُكْمًا.

أَمَّا حَقِيقَةً، أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لَا أَحْلِفُ. فَالْقَاضِي يَقُولُ لَهُ: إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْكَ الْيَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ حَلَفْتَ وَإِلَّا قَضَيْتُ عَلَيْكَ بِالْمَالِ. فَيَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: احْلِفْ وَإِلَّا قَضَيْتُ عَلَيْكَ بِالْمَالِ. وَإِنَّمَا قَدَّرَهُ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ؛ لِيَكُونَ أَجْلَى لِلْعَمَى وَأَبْلَغُ فِي إبْلَاغِ الْعُذْرِ، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِنُكُولِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى نَفَذَ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ مُعْتَبَرٌ لِلتَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَقَدْ وُجِدَ دَلِيلُ الْقَضَاءِ، لَكِنَّ الْإِمْهَالَ وَتَرْكَ الِاسْتِعْجَالِ أَوْلَى، فَإِنْ قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى: لَا أَحْلِفُ. ثُمَّ قَالَ فِي الْمَرَّةِ.

الثَّانِيَةِ: أَحْلِفُ. ثُمَّ قَالَ فِي الْمَرَّةِ.

الثَّالِثَةِ: لَا أَحْلِفُ. قَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ أَحْلِفُ لَمْ يَصِرْ مُوَفِّيًا حَقَّهُ فِي الْيَمِينِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَمْهَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْمُدَّعِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ مَا قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لَا أَحْلِفُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُهْلَةِ وَأَبَى الْيَمِينَ فَالْقَاضِي يَسْتَقْبِلُ عَلَيْهِ عَرْضَ الْيَمِينِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّ عَرْضَ الْيَمِينِ إنَّمَا يَبْقَى مُعْتَبَرًا إذَا بَقِيَ الِاسْتِحْلَافُ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لِلْمُدَّعِي، فَفِي الْأَوَّلِ بَقِيَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لِلْمُدَّعِي فَبَقِيَ عَرْضُ الْيَمِينِ مُعْتَبَرًا، وَفِي الثَّانِي لَمْ يَبْقَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لِلْمُدَّعِي فِي الْمُهْلَةِ فَلَا يَبْقَى عَرْضُ الْيَمِينِ مُعْتَبَرًا.

(فَرْعٌ) :

وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَنَا أَحْلِفُ يُحَلِّفُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ، وَبَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يُحَلِّفُهُ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَثَرَهُ فِي إبْطَالِ كَلَامِ الْمُدَّعِي فَاعْتُبِرَ، وَبَعْدَ الْقَضَاءِ أَثَرَهُ فِي إبْطَالِ الْقَضَاءِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ، وَصَارَ كَرُجُوعِ الشُّهُودِ قَبْلَ الْقَضَاءِ مُعْتَبَرٌ أَوْ بَعْدَهُ لَا، إلَّا فِي حَقِّ الضَّمَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْقَضَاءِ.

وَأَمَّا النُّكُولُ حُكْمًا: وَهُوَ أَنْ يَعْرِضَ الْقَاضِي الْيَمِينَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَسَكَتَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَلَمْ يُجِبْهُ يَجْعَلُهُ نَاكِلًا؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَيْهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ جَوَابِ الْخَصْمِ يَجْعَلُهُ الْقَاضِي مُجِيبًا لَهُ، كَذَا هَذَا وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ بِلِسَانِهِ آفَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ فِي لِسَانِهِ آفَةٌ تَمْنَعُهُ عَنْ الْجَوَابِ، أَوْ بِأُذُنِهِ آفَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ السَّمَاعِ لَا يَجْعَلُ امْتِنَاعَهُ عَنْ الْيَمِينِ نُكُولًا حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَسْمَعْ وَيَقْدِرْ عَلَى الْجَوَابِ لَا يَصِيرُ ظَالِمًا فَلَا يُجْعَلُ نُكُولًا حُكْمًا.

(مَسْأَلَةٌ) :

وَلَوْ سَأَلَهُ الْقَاضِي عَنْ دَعْوَاهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يُجِبْهُ فَالْقَاضِي يَأْمُرُ الْمُدَّعِيَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ حَالِهِ هَلْ بِهِ آفَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ؟ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا آفَةَ بِهِ وَأَعَادَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَادَّعَى وَهُوَ سَاكِتٌ فَالْقَاضِي يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثَلَاثًا وَيَقْضِي عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِيمَنْ نَكَلَ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ]

(فَصْلٌ) :

فِيمَنْ نَكَلَ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [النور: ٤٨] الْآيَةَ، فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْ دُعِيَ إلَى حَاكِمٍ فَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ وَيُجَرَّحُ إنْ تَأَخَّرَ. .

وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَنْ دُعِيَ إلَى حَاكِمٍ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لَا حَقَّ لَهُ» انْتَهَى.

قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ دَعْوَى فَدَعَاهُ إلَى الْقَاضِي فَامْتَنَعَ خَتَمَ لَهُ خَاتَمًا مِنْ طِينٍ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بَعَثَ مَعَهُ بَعْضَ أَعْوَانِهِ لِيَدْعُوهُ إلَيْهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ وَتَوَارَى عَنْهُ فِي مَنْزِلِهِ سَأَلَ الْخَصْمَ عَنْ دَعْوَاهُ، فَإِنْ ادَّعَى شَيْئًا مَعْلُومًا فَالْقَاضِي يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ نَصْبُ الْوَكِيلِ عَمَّنْ اخْتَفَى فِي بَيْتِهِ بَعْدَ مَا نَادَى أَمِينُ الْقَاضِي عَلَى بَابِ دَارِهِ. اُنْظُرْ فُصُولَ الْأُسْرُوشَنِيِّ وَالْمُحِيطَ وَالْخُلَاصَةَ.

<<  <   >  >>