للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْخُلْفُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالنَّسْخُ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى الْكَذِبِ فَلَا يَجُوزُ (وَقِيلَ نَعَمْ) يَجْرِي فِيهَا مُطْلَقًا أَيْ مَاضِيَةً وَمُسْتَقْبَلَةً وَعْدًا وَوَعِيدًا وَعَلَيْهِ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالْآمِدِيُّ إذَا كَانَ مَدْلُولُهَا مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ وَعَزَاهُ فِي كَشْفِ الْبَزْدَوِيِّ إلَى بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إذَا كَانَ مَدْلُولُهُ مُتَكَرِّرًا وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ عَامًّا كَمَا لَوْ قَالَ: عَمَّرْت زَيْدًا أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ تِسْعَمِائَةٍ أَوْ لَأُعَذِّبَنَّ الزَّانِيَ أَبَدًا، ثُمَّ قَالَ أَرَدْت أَلْفَ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ النَّاسِخَ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْمَدْلُولِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَرِّرًا نَحْوَ أَهْلَكَ اللَّهُ زَيْدًا، ثُمَّ قَالَ مَا أَهْلَكَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلَوْ أَخْبَرَ عَنْ إعْدَامِهِ وَبَقَائِهِ جَمِيعًا كَانَ تَنَاقُضًا وَمِنْهُمْ كَالْبَيْضَاوِيِّ مَنْ مَنَعَهُ فِي الْمَاضِي وَجَوَّزَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: ٣٩] إنَّ لَك أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى) وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: ١٢١] وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى أَنَّ الصِّلَةَ مُضَارِعٌ فَيَتَعَلَّقُ الْمِحْوَرُ بِمَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ وَالْإِخْبَارُ يَتْبَعُهُ وَأَيْضًا الْوُجُودُ الْمُحَقَّقُ فِي الْمَاضِي لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَنْعُهُ مِنْ الثُّبُوتِ قِيلَ؛ وَلِأَنَّ الْكَذِبَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَاضِي قَالَ السُّبْكِيُّ وَهُوَ الْمَفْهُومُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمِنْ أَجْلِهِ قَالَ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ وَيُسَمَّى مِنْ لَا يَفِي بِالْوَعْدِ مُخْلِفًا لَا كَاذِبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِ «إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.

وَلَوْ كَانَ الْإِخْلَافُ كَذِبًا دَخَلَ تَحْتَ «وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ» وَالْأَوْجَهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ السُّبْكِيُّ وَالْكَرْمَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَعَلِّقَ بِالِاسْتِقْبَالِ كَ سَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ يَصِحُّ فِيهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، وَالْوَعْدُ إنْشَاءٌ لَا خَبَرٌ وَالْإِخْلَافُ أَيْضًا كَذِبٌ وَلِلِاهْتِمَامِ بِهِ خَصَّصَهُ بِالذِّكْرِ، وَتَخْصِيصُهُ بِاسْمٍ آخَرَ لَا يُنَافِيهِ مَعَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى، ثُمَّ تَقُولُ إذَا لَمْ يَدْخُلْهُ الْكَذِبُ لَا يَكُونُ خَبَرًا فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُلَقَّبَةِ بِنَسْخِ الْأَخْبَارِ، ثُمَّ مِنْهُمْ كَابْنِ السَّمْعَانِيِّ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ فِي الْوَعْدِ؛ لِأَنَّ الْخُلْفَ فِي الْإِنْعَامِ عَلَى اللَّهِ مُسْتَحِيلٌ وَجَوَّزَهُ فِي الْوَعِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ خُلْفًا بَلْ عَفْوًا وَكَرَمًا وَعِبَارَةُ الْخَطَّابِيِّ: النَّسْخُ يَجْرِي فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ بِخِلَافِ إخْبَارِهِ بِمَا لَا يَفْعَلُهُ إذْ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الشَّرْطِ فِيهِ وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَ ابْنُ عُمَرَ النَّسْخَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: ٢٨٤] فَإِنَّهُ نَسَخَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْعِ حَدِيثِ النَّفْسِ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى التَّخْفِيفِ وَالْعَفْوِ عَنْ عِبَادِهِ وَهُوَ كَرْمٌ وَفَضْلٌ وَلَيْسَ بِخُلْفٍ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ أَنَّ الْخَبَرَ إنْ كَانَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ سَوَاءٌ فَإِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ بِالْحِلِّ مُطْلَقًا، ثُمَّ أَخْبَرَ بَعْدَهُ بِالْحُرْمَةِ بِنَسْخِ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي وَإِنْ أَخْبَرَ عَنْهُمَا مُؤَبَّدًا لَا يُنْسَخُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْأَحْكَامِ كَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ يُدْخِلُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ وَيُدْخِلُ الْكُفَّارَ النَّارَ فَعِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْأُصُولِ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ فِي الْخَبَرِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ فِي الْوَعِيدِ؛ لِأَنَّهُ كَرْمٌ لَا فِي الْوَعْدِ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَ، وَكَذَا إذَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ بِأَنَّهُ يُولَدُ لِفُلَانٍ وَلَدٌ يَوْمَ كَذَا فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ إذْ خِلَافُهُ كَذِبٌ فَلَا يَجُوزُ فِي وَصْفِ اللَّهِ وَالنَّبِيُّ مَعْصُومٌ عَنْهُ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيِّ الْخَبَرُ الْوَارِدُ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعِبَادَةُ بِاعْتِقَادِ مُخْبِرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَلَا التَّعَبُّدُ فِيهِ بِغَيْرِ الِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ وَالْمَعْنَى الْآخَرُ حِفْظُهُ وَتِلَاوَتُهُ وَهَذَا مِمَّا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَإِنْ أُمِرْنَا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَتَرْكِ تِلَاوَتِهِ حَتَّى يَنْدَرِسَ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمَانِ فَيُنْسَى كَمَا نُسِخَ تِلَاوَةُ سَائِرِ كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ، ثُمَّ قَدْ عُرِفَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ لَيْسَ مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ أَمَّا إذَا كَانَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: ٢٢٨] جَازَ بِلَا خِلَافٍ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ بَرْهَانٍ بَلْ الْخِلَافُ يَجْرِي فِيهِ أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ، وَجَوَازُ نَسْخِهِ مَعْزُوٌّ إلَى الْأَكْثَرِينَ خِلَافًا لِلدَّقَّاقِ وَلَا وَجْهَ ظَاهِرٌ لَهُ قِيلَ: إلَّا أَنْ يُقَالَ لِكَوْنِهِ عَلَى صُورَةِ الْخَبَرِ وَهُوَ سَاقِطٌ هَذَا وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ أَوْ بَيَانٌ فَإِنْ قُلْنَا رَفْعٌ لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْخَبَرِ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ النَّاسِخُ الرَّافِعُ لِبَعْضِ مَدْلُولِهِ كَاذِبًا ضَرُورَةً أَنَّهُ صَادِقٌ وَإِلَّا فَهُوَ كَاذِبٌ وَإِنْ قُلْنَا بَيَانُ الْمُرَادِ اُتُّجِهَ أَنْ يُقَالَ: الْخِطَابُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا ظَاهِرًا لَكِنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْ اللَّفْظِ فَلَمْ يُفْضِ نَسْخُ الْخَبَرِ حِينَئِذٍ إلَى الْكَذِبِ وَهُوَ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>