للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّعْيِينِ أَشَقُّ مِنْ التَّخْيِيرِ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ «لَمَّا نَزَلَتْ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: ١٨٤] كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ يَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا» ، وَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكَيْنَا تَرَكَ الصِّيَامَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ وَرَخَّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَتْهَا {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: ١٨٤] فَأُمِرُوا بِالصِّيَامِ» لَكِنْ يُعَارِضُهُمَا مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: ١٨٤] وَلِبَعْضِ الرُّوَاةِ يُطَوَّقُونَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً وَهِيَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ وَالْأَوْلَى الْجَمْعُ وَإِنَّهَا كَانَتْ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ ثُمَّ خُصَّتْ بِالْعَاجِزِ انْتَهَى

قُلْت وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْجَمْعِ بِشَيْءٍ فَإِنَّ مَنْطُوقَ اللَّفْظِ لَا يُسَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ لِلتَّبَايُنِ بَيْنَ مَفْهُومَيْ مَنْ يُطِيقُ وَمَنْ لَا يُطِيقُ فَلَا يَشْمَلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، بَلْ أَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَاهُنَا عَلَى مَا فِيهِ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ مُفِيدَةً هَذِهِ الرُّخْصَةَ لِلْمُطِيقِينَ مَنْطُوقًا وَلِغَيْرِهِمْ مَفْهُومًا ثُمَّ نُسِخَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَنْطُوقِ دُونَ الْمَفْهُومِ وَهَذَا قَوْلٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَسَتَقِفُ عَلَى مَا فِيهَا وَإِنَّمَا قُلْت عَلَى مَا فِيهِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ شَرْعِيَّةِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ لِلْمُطِيقِينَ شَرْعِيَّتُهَا لِغَيْرِهِمْ لَا بِطَرِيقِ أَوْلَى وَلَا بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ إذْ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ لَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ تَخْيِيرِ الْمُطِيقِينَ لِلصَّوْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ تَخْيِيرُ الْعَاجِزِينَ عَنْ الصَّوْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ وَلَا تَعَيُّنُ لُزُومِ الْفِدْيَةِ لَهُمْ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ طَاقَتِهِمْ لَهُ إذْ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِمْ الْفِدْيَةُ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّوْمِ عَلَى الْمُطِيقِينَ إنَّمَا كَانَ لِوُجُودِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى الصَّوْمِ وَحَيْثُ انْتَفَتْ فِي الْعَاجِزِينَ انْتَفَى وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِمْ أَيْضًا.

وَمَشَى شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ عَلَى تَقْدِيمِ مَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ بَلْ مِنْ سَمَاعٍ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ مُثْبَتٌ فِي نَظْمِ كِتَابِ اللَّهِ فَجَعْلُهُ مَنْفِيًّا بِتَقْدِيرِ حَرْفِ النَّفْيِ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ إلَّا لِسَمَاعٍ أَلْبَتَّةَ وَكَثِيرًا مَا يُضْمَرُ حَرْفُ لَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي التَّنْزِيلِ الْكَرِيمِ {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: ٨٥] أَيْ لَا تَفْتَؤُ، وَفِيهِ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: ١٧٦] . أَيْ لَا تَضِلُّوا، {رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان: ١٠] . وَقَالَ شَاعِر

فَقُلْت يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْك وَأَوْصَالِي

أَيْ لَا أَبْرَحُ وَقَالَ

تَنْفَكُّ تَسْمَعُ مَا حَيِيت بِهَالِكٍ حَتَّى تَكُونَهْ

أَيْ لَا تَنْفَكُّ وَرِوَايَةُ الْأَفْقَهِ أَوْلَى وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: ١٨٤] لَيْسَ نَصًّا فِي نَسْخِ إجَازَةِ الِافْتِدَاءِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ انْتَهَى (قُلْت) وَلِلْبَحْثِ فِي هَذَا مَجَالٌ أَيْضًا فَإِنَّ فِي الْآيَةِ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ وَخَمْسَ قِرَاءَاتٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا فِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهِ الْقِرَاءَتَانِ السَّالِفَتَانِ وَيَتَطَوَّقُونَهُ وَيُطَوِّقُونَهُ وَيُطِيقُونَهُ، وَلِلْكُلِّ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ لَا مَعَ جَهْدٍ وَعُسْرٍ وَعِبَارَةُ نَجْمِ الدِّينِ النَّسَفِيِّ أَيْ يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّوْمِ بِأَنْ لَا يَكُونُوا مَرْضَى أَوْ مُسَافِرِينَ.

ثَانِيهِمَا: فِي الْمَجْهُولِ يُكَلَّفُونَهُ عَلَى جَهْدٍ مِنْهُمْ وَمَشَقَّةٍ، وَفِي الْمَعْلُومِ يَتَكَلَّفُونَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا أَخْذًا مِنْ الْكُلْفَةِ بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ وَبُلُوغِ الْجَهْدِ وَالطَّاقَةِ، فَالْآيَةُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَنْسُوخَةُ الْحُكْمِ قَطْعًا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى تَقْدِيرٍ لَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ تَقْدِيرُهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَعَمْ ذَكَرَ النَّسَفِيُّ فِي قِرَاءَةِ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْقَوْلُ بِالنَّسْخِ وَعَلَى الثَّانِي ثَابِتَةُ الْحُكْمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْقَوْلُ بِنَفْيِ النَّسْخِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحَلُّ تَوَارُدِ قَوْلَيْ النَّسْخِ وَنَفْيِهِ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ مَعَ تَقْدِيرِ لَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكَانَ قَوْلُ النَّسْخِ مُقَدَّمًا عَلَى قَوْلِ نَفْيِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ النَّسْخِ مُثْبِتٌ وَقَوْلُ نَافِيهِ نَافٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا فِيهِ وَحَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ لَا لِاحْتِيَاجِ ثُبُوتِ اسْتِمْرَارِ الْحُكْمِ إلَيْهَا مَعَ كَثْرَةِ إضْمَارِهَا بِخِلَافِ النَّسْخِ فَإِنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يَكُونُ إلَّا عَنْ سَمَاعٍ وَخُصُوصًا فِي السِّيَاقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِابْنِ الْأَكْوَعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>