للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَظْهَرَتْ الْجَمَاعَةُ إنْكَارَ قَوْلِهِمْ وَلَمْ يُسَوِّغُوا لَهُمْ خِلَافًا، وَإِنْ سَوَّغَتْ الْجَمَاعَةُ لِلنَّفَرِ الْيَسِيرِ خِلَافَهُمْ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ لَمْ يَكُنْ مَا قَالَتْ بِهِ الْجَمَاعَةُ إجْمَاعًا، وَإِنْ خَالَفَ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ جَمَاعَةٌ مِثْلُهَا فِي الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ وَأَنْكَرَ بَعْضٌ عَلَى بَعْضٍ مَا قَالَهُ أَوْ لَمْ يُنْكِرْهُ لَمْ يَنْعَقِدْ بِقَوْلِ إحْدَى الْجَمَاعَتَيْنِ إجْمَاعٌ إذَا لَمْ يَثْبُتْ ضَلَالُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عِنْدَنَا وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ.

وَقَالَ آخَرُونَ إذَا خَالَفَ عَلَى الْجَمَاعَةِ الَّتِي وَصَفْتُمْ حَالَهَا الْعَدَدُ الْيَسِيرُ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا كَانَ خِلَافُهُ عَلَيْهَا خِلَافًا صَحِيحًا وَلَمْ يَثْبُتْ مَعَ خِلَافِهِ إجْمَاعٌ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَذْهَبُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ يَحْكِي عَنْ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا وَسَاقَ وَجْهَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ دَلَالَةً مِمَّا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي إثْبَاتِ خِلَافِ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ إذَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ الْكَثْرَةِ فِي حَدٍّ يَنْعَقِدُ بِمِثْلِهَا الْإِجْمَاعُ لَوْ لَمْ يُخَالِفْهَا مِثْلُهَا فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَبِرُ إجْمَاعَ الْأَكْثَرِ وَهُمْ الْحَشْوِيَّةُ وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ لَا يَنْعَقِدُ بِذَلِكَ إجْمَاعٌ وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْقَلِيلِ إذَا كَانُوا عَلَى حَدٍّ مَتَى أَخْبَرُوا عَنْ اعْتِقَادِهِمْ لِلْحَقِّ وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُمْ وَوَقَعَ الْعِلْمُ بِاشْتِمَالِ خَبَرِهِمْ عَلَى صِدْقٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ فَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عَلَى الْقَلِيلِ وَمَدَحَهُمْ وَذَمَّ الْكَثِيرَ فَقَالَ تَعَالَى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: ١٣] {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} [هود: ٤٠] {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: ١١٦] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: ١٨٧] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ قِيلَ وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إذَا أَفْسَدَ النَّاسُ» وَقَالَ «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ ارْتَدَّ أَكْثَرُ النَّاسِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنَعُوا الصَّدَقَةَ وَكَانَ الْمُحِقُّونَ الْأَقَلَّ وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَكَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْقَوْلِ بِإِمَامَةِ مُعَاوِيَةَ وَيَزِيدَ وَأَشْبَاهِهِمَا مِنْ مُلُوكِ بَنِي مَرْوَانَ وَالْأَقَلُّ كَانُوا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ الْأَقَلِّ لَا الْأَكْثَرِ فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ.

فَإِنْ قِيلَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» وَقَالَ «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» وَقَالَ «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ إجْمَاعِ الْأَكْثَرِ قِيلَ لَهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِرْقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَا جَمَاعَةٌ فَلِمَ اعْتَبَرْت الْأَكْثَرَ وَلَا دَلَالَةَ فِي الْخَبَرِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ يَعْنِي إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى شَيْءٍ وَخَالَفَهَا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهَا وَلَزِمَ اتِّبَاعُ الْجَمَاعَةِ أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ فَأَخْبَرَ أَنَّ لُزُومَ الْجَمَاعَةِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهَا إلَّا الْوَاحِدُ وَالْعَدَدُ الْيَسِيرُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» مَعْنَاهُ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فِي أُصُولِ اعْتِقَادَاتِهَا فَلَا تَنْقُضُوهُ وَتَصِيرُوا إلَى خِلَافِهِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِقَوْلٍ بَاطِلٍ فَقَدْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ وَالسَّوَادَ الْأَعْظَمَ إمَّا فِي جُمْلَةِ اعْتِقَادِهَا أَوْ تَفْصِيلِهِ اهـ مَعَ بَعْضِ تَلْخِيصٍ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهِ خِلَافٌ وَتُعُقِّبَ كَمَا سَيُعْلَمُ فَهُوَ خِلَافُ مَا نَسَبَهُ صَاحِبُ الْبَدِيعِ إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ عَلَى أَنَّ إجْمَاعَ الْأَكْثَرِ حُجَّةٌ مُطْلَقًا، وَصَاحِبُ الْكَشْفِ وَغَيْرُهُ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْأَكْثَرَ إنْ سَوَّغَ اجْتِهَادَ الْأَقَلِّ لَمْ يَنْعَقِدْ الْإِجْمَاعُ مَعَ خِلَافِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَوِّغُوهُ انْعَقَدَ مَعَ خِلَافِهِ هَذَا وَنَقَلَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الرَّازِيّ مِنْ أَنَّهُ إنْ خَالَفَ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ اُعْتُبِرَ وَإِلَّا فَلَا وَنَقَلَ سُلَيْمُ الرَّازِيّ عَنْهُ إنْ خَالَفَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ اُعْتُبِرَ وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

(وَالْمُخْتَارُ لَيْسَ) إجْمَاعَ الْأَكْثَرِ (إجْمَاعًا) أَصْلًا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً قَطْعِيَّةً وَلَا ظَنِّيَّةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ بَلْ وَلَا دَلِيلٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ مِنْ الْأَئِمَّةِ (وَ) الْمُخْتَارُ (لِبَعْضِهِمْ) وَكَأَنَّهُ ابْنُ الْحَاجِبِ (لَيْسَ إجْمَاعًا لَكِنْ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إصَابَتُهُمْ) أَيْ الْأَكْثَرِ (خُصُوصًا مَعَ عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ) كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ هُوَ الْأَكْثَرُ (وَأَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ إجْمَاعًا (فَانْفِرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ) أَيْ إنْكَارُهُ مِنْ بَيْنِ الصَّحَابَةِ كَمَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ فَلَا يَقْدَحُ ذَهَابُ عَطَاءٍ وَابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْبَاقِرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>