للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِلَّا لَانْسَدَّ بَابُ الِاجْتِهَادِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِحْضَارُهُ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ إذْ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ، وَلَوْ تُصُوِّرَ لَمَا حَضَرَ ذِهْنَهُ عِنْد الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ اجْتَهَدَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ لَمْ يَسْتَحْضِرُوا فِيهَا النُّصُوصَ حَتَّى رُوِيَتْ لَهُمْ فَرَجَعُوا إلَيْهَا.

وَأَمَّا فِي الْقُرْآنِ فَقِيلَ: مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ تَمْيِيزَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْجَمِيعِ بِالضَّرُورَةِ، وَتَقْلِيدُ الْغَيْرِ فِي ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مُتَفَاوِتُونَ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْأَحْكَامِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالْأَذْهَانِ وَمَا يَفْتَحُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَلَعَلَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْأَحْكَامِ بِالْمُطَابَقَةِ لَا بِالتَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَغَيْرُهُ إذْ غَالِبُ الْقُرْآنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ (وَهِيَ) أَيْ جُزْئِيَّاتُ تِلْكَ الْمَفَاهِيمِ (أَقْسَامُ اللُّغَةِ مَتْنًا وَاسْتِعْمَالًا لَا حِفْظُهَا) أَيْ الْمَحَالِّ الْمَذْكُورَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: يَجِبُ حِفْظُ مَا اخْتَصَّ بِالْأَحْكَامِ مِنْ الْقُرْآنِ وَنُقِلَ فِي الْقَوَاطِعِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْحَافِظَ أَضْبَطُ لِمَعَانِيهِ مِنْ النَّاظِرِ فِيهِ وَنَقَلَهُ الْقَيْرَوَانِيُّ فِي الْمُسْتَوْعِبِ عَنْ الشَّافِعِيِّ قُلْت وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ نَعَمْ الْحِفْظُ أَحْسَنُ كَمَا تَعْلِيلُ اللُّزُومِ يُفِيدُهُ (وَلِلسَّنَدِ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ وَالضَّعِيفِ وَالْعَدْلِ وَالْمَسْتُورِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ) قَالُوا: وَالْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الرُّوَاةِ فِي زَمَانِنَا مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ وَكَثْرَةِ الْوَسَائِطِ كَالْمُتَعَذِّرِ فَالْأَوْلَى الِاكْتِفَاءُ بِتَعْدِيلِ الْأَئِمَّةِ الْمَعْرُوفِ صِحَّةُ مَذْهَبِهِمْ فِي التَّعْدِيلِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْجَرْحِ (وَعَدَمُ الْقَاطِعِ) بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى " مَعْرِفَةُ " (وَ) عَدَمُ (النَّسْخِ) وَوَجْهُ اشْتِرَاطِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ غَيْرُ خَافٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ فَرْعُ مَعْرِفَةِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ. وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ وَفَهْمُ الْمُرَادِ مِنْ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ وَاعْتِبَارُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِلْقَاطِعِ وَلَا مَنْسُوخٍ وَلَا مُجْمَعٍ عَلَى خِلَافِهِ، وَعَلَى هَذَا يُزَادُ وَمَعْرِفَتُهُ بِمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ كَيْ لَا يَخْرِقَهُ، وَذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ مَذْهَبَ ذِي مَذْهَبٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَأَنَّهُ وَاقِعَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ لَا خَوْضَ فِيهَا لِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَلَا يَلْزَمُهُ حِفْظُ جَمِيعِ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ.

(وَ) شَرْطُ (الْخَاصِّ مِنْهُ) أَيْ الِاجْتِهَادِ مَعْرِفَةُ (مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ آنِفًا عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِ (فِيمَا فِيهِ) الِاجْتِهَادُ (كَذَا لِكَثِيرٍ) مِنْهُمْ صَاحِبُ الْبَدِيعِ (بِلَا حِكَايَةِ عَدَمِ جَوَازِ تَجَزِّي الِاجْتِهَادِ) أَيْ أَنْ يُقَالَ شَخْصُ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ فَيَحْصُلُ لَهُ مَا هُوَ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ مِنْ الْأَدِلَّةِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهَا) أَيْ حِكَايَةَ عَدَمِ جَوَازِ تَجَزِّيهِ (وَعَلَيْهِ) أَيْ جَوَازِ تَجَزِّيهِ

(فَرْعٌ) أَنَّهُ يَجُوزُ (اجْتِهَادُ الْفَرَضِيِّ فِي) عِلْمِ (الْفَرَائِضِ) بِأَنْ يَعْلَمَ أَدِلَّتَهُ بِاسْتِقْرَاءٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ مُجْتَهِدٍ كَامِلٍ وَيَنْظُرُ فِيهَا (دُونَ غَيْرِهِ) مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا لَمْ يَبْلُغْ فِيهَا رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ (وَقَدْ حُكِيَتْ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهَا وَذُكِرَ فِيهَا جَوَازُهُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبُسْتِيُّ مِنْ مَشَايِخِنَا وَمُخْتَارُ الْغَزَالِيِّ وَنَسَبَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ إلَى الْأَكْثَرِ وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ الْحَقُّ فِي مَسْأَلَةِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ يَلْزَمُهُ التَّقْلِيدُ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ التَّوَقُّفُ (وَاخْتَارَ طَائِفَةٌ نَفْيَهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُجْتَهِدَ (وَإِنْ ظَنَّ حُصُولَ كُلِّ مَا يَحْتَاجُهُ لَهَا) أَيْ لِلْمَسْأَلَةِ الَّتِي هُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهَا (احْتَمَلَ غَيْبَةَ بَعْضِهِ) أَيْ مَا يَحْتَاجُهُ لَهَا مِمَّا يَقْدَحُ فِي ظَنِّ الْحُكْمِ (عَنْهُ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ) الْمَذْكُورُ ثَابِتٌ (كَذَلِكَ لِلْمُطْلَقِ) أَيْ لِلْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنْ ظَنَّ كُلٌّ مِنْهُمَا حُصُولَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ ظَنِّهِ لَا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ (لَكِنَّهُ) أَيْ هَذَا الِاحْتِمَالُ (يَضْعُفُ) أَوْ يَنْعَدِمُ (فِي حَقِّهِ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ (لِسِعَتِهِ) أَيْ نَظَرِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِالْكُلِّ بِحَسَبِ ظَنِّهِ فَيَبْقَى ظَنُّهُ بِالْحُكْمِ بِحَالِهِ (وَيَقْوَى فِي غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ لِعَدَمِ إحَاطَتِهِ بِالْكُلِّ بِحَسَبِ ظَنِّهِ فَلَا يَبْقَى بِالْحُكْمِ بِحَالِهِ فَلَمْ يَقْدَحْ فِي الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُطْلَقِ وَقَدَحَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ.

(وَقَدْ يَمْنَعُ التَّفَاوُتُ)

<<  <  ج: ص:  >  >>