للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(لَا يَكَادُ يُوجَدُ فَإِنَّهُ قَلَّ أَنْ يَسْمَعَ مَنْ لَمْ يَنْتَقِلْ ذِهْنُهُ قَطُّ مِنْ الْحَوَادِثِ إلَى مُوجِدِهَا، وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (لَمْ يَخْطِرْ لَهُ الْمُوجِدُ أَوْ خَطَرَ فَشَكَّ فِيهِ مَنْ يَقُولُ لِهَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ رَبٌّ أَوْجَدَهَا مُتَّصِفٌ بِالْعِلْمِ بِكُلِّ شَيْءٍ وَالْقُدْرَةِ إلَخْ) أَيْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إلَى آخِرِ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ (فَيَعْتَقِدُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ) لِلسَّامِعِ مِنْ الْمَصْنُوعِ إلَى الصَّانِعِ (يُفِيدُ اللُّزُومَ بَيْنَ الْمُحْدَثِ) بِفَتْحِ الدَّالِ (وَالْمُوجِدِ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَلَيْسَ مَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ إلَّا هَذَا فَمَنْ لَمْ يَنْتَقِلْ فَاعِلُ يَسْمَعُ وَمَنْ يَقُولُ مَفْعُولُهُ لَكِنَّ إلْكِيَا بَعْدَ أَنْ حَكَى إجْمَاعَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ قَالَ: وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُمْ عَارِفُونَ بِالْأَدِلَّةِ وَقَصُرَتْ عِبَارَاتُهُمْ عَنْ أَدَائِهَا أَوْ غَيْرُ عَارِفِينَ بِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْتَفِي مِنْ الْأَعْرَابِ بِالتَّصْدِيقِ مَعَ الْعِلْمِ بِقُصُورِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَفِي مُسْلِمٍ «عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ فِي الْأَمَةِ السَّوْدَاءَ الَّتِي أَرَادَ عِتْقهَا وَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ ائْتِنِي بِهَا فَجَاءَتْ فَقَالَ أَيْنَ اللَّهُ فَقَالَتْ فِي السَّمَاءِ فَقَالَ مَنْ أَنَا قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ اهـ.

فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَاشٍ عَلَى الْأَوَّلِ (قَالُوا) أَيْ مُجَوَّزُو التَّقْلِيدِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَنَافُو وُجُوبِ النَّظَرِ فِيهَا ثَانِيًا: (وُجُوبُ النَّظَرِ دَوْرٌ لِتَوَقُّفِهِ) أَيْ وُجُوبِهِ (عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ) الْمُوجِبِ لَهُ، وَتَوَقُّفُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَلَى النَّظَرِ (أُجِيبُ بِأَنَّهُ) أَيْ إيجَابَ النَّظَرِ مُتَوَقِّفٌ (عَلَى مَعْرِفَتِهِ) أَيْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ (بِوَجْهٍ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى النَّظَرِ مَا) أَيْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى (بِأَتَمِّ) أَيْ بِوَجْهٍ أَتَمَّ (أَيْ الِاتِّصَافُ بِمَا يَجِبُ لَهُ) مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ (كَالصِّفَاتِ الثَّمَانِيَةِ) الْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالتَّكْوِينُ (وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ) مِنْ النَّقِيصَةِ وَالزَّوَالِ وَقَالَ (الْمَانِعُونَ) مِنْ النَّظَرِ: النَّظَرُ (مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِي الشُّبَهِ وَالضَّلَالِ) لِاخْتِلَافِ الْأَذْهَانِ وَالْأَنْظَارِ بِخِلَافِ التَّقْلِيدِ فَإِنَّهُ طَرِيقٌ آمِنٌ فَوَجَبَ احْتِيَاطًا وَلِوُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْ مَظِنَّةِ الضَّلَالِ إجْمَاعًا (قُلْنَا) إنَّمَا يَكُونُ مَمْنُوعًا (إذَا فَعَلَ) النَّظَرَ (غَيْرَ الصَّحِيحِ الْمُكَلَّفِ بِهِ) وَنَحْنُ نَقُولُ يَلْزَمُهُ النَّظَرُ الصَّحِيحُ الْمُكَلَّفُ بِهِ (وَأَيْضًا فَيَحْرُمُ) عَلَى هَذَا النَّظَرُ (عَلَى الْمُقَلَّدِ) بِفَتْحِ اللَّامِ (النَّاظِرِ) أَيْضًا؛ لِأَنَّ نَظَرَهُ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِيهِمَا أَيْضًا.

ثُمَّ تَقْلِيدُ الْمُقَلِّدِ إيَّاهُ حِينَئِذٍ أَوْلَى بِالْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَا فِيهِ مَعَ زِيَادَةِ احْتِمَالِ كَذِبِهِ، وَإِضْلَالِهِ (إذْ لَا بُدَّ مِنْ الِانْتِهَاءِ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْمُقَلَّدِ النَّاظِرِ. (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَنْتَهِ إلَيْهِ (لَتَسَلْسَلَ) إلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُقَلَّدٍ، وَالتَّسَلُّلُ الْمَذْكُورُ بَاطِلٌ فَإِنْ قِيلَ يَنْتَهِي إلَى الْمُؤَيَّدِ بِالْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ فِيهِ الْخَطَأُ فَيَنْدَفِعُ الْمَحْذُورُ فَالْجَوَابُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَالِانْتِهَاءُ إلَى الْمُؤَيَّدِ بِالْوَحْيِ، وَالْأَخْذُ عَنْهُ لَيْسَ تَقْلِيدًا بَلْ) الْمَأْخُوذُ عَنْهُ (عِلْمٌ نَظَرِيٌّ) لِتَوَقُّفِهِ عَلَى ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ لَهُ بِالْمُعْجِزَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَلَا يَصْلُحُ أَنَّ التَّقْلِيدَ وَاجِبٌ، وَأَنَّ النَّظَرَ حَرَامٌ.

[مَسْأَلَة غَيْر الْمُجْتَهِدِ المطلق يَلْزَمهُ التَّقْلِيد وَإِنَّ كَانَ مجتهدا فِي بَعْض مَسَائِل الْفِقْه]

(مَسْأَلَةٌ: غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ يَلْزَمُهُ) عِنْدَ الْجُمْهُورِ (التَّقْلِيدُ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ أَوْ بَعْضِ الْعُلُومِ كَالْفَرَائِضِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّجَزِّي) لِلِاجْتِهَادِ (وَهُوَ الْحَقُّ) لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عَلَيْهِ الْأَكْثَرِينَ.

وَوَجْهُهُ (فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ) وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّقْلِيدِ (وَمُطْلَقًا) أَيْ وَيَلْزَمُهُ التَّقْلِيدُ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَفِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ (عَلَى نَفْيِهِ) أَيْ نَفْيِ الْقَوْلِ بِالتَّجَزِّي (وَقِيلَ) أَيْ وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: إنَّمَا يَلْزَمُ التَّقْلِيدُ (فِي الْعَالِمِ بِشَرْطِ تَبْيِينِ صِحَّةِ مُسْتَنَدِهِ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ لَهُ (وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا لَهُ (لَمْ يَجُزْ) لَهُ تَقْلِيدُهُ (لَنَا عُمُومُ) قَوْله تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣] (فِيمَنْ لَا يَعْلَمُ) عَامِّيًّا صِرْفًا كَانَ أَوْ عَالِمًا بِبَعْضِ الْعُلُومِ غَيْرَ عَالِمٍ بِحُكْمِ مَسْأَلَةٍ لَزِمَهُ مَعْرِفَتُهُ (وَفِيمَا لَا يَعْلَمُ لِتَعَلُّقِهِ) أَيْ الْأَمْرِ بِالسُّؤَالِ (بِعِلَّةِ عَدَمِ الْعِلْمِ) فَكُلَّمَا تَحَقَّقَ عَدَمُ الْعِلْمِ تَحَقَّقَ وُجُوبُ السُّؤَالِ فَيَلْزَمُهُ الْعُمُومُ فِيمَا لَا يَعْلَمُ، وَهَذَا غَيْرُ عَالِمٍ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا السُّؤَالُ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْعَلِيَّةِ أَنَّ الشَّرْطَ اللُّغَوِيَّ فِي السَّبَبِيَّةِ أَغْلَبُ وَيُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لِلْمُسَبِّبِ سِوَاهُ (وَأَيْضًا لَمْ يَزَلْ الْمُسْتَفْتُونَ يَتَّبِعُونَ) الْمُفْتِينَ (بِلَا إبْدَاءِ مُسْتَنَدٍ) لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَشَاعَ وَذَاعَ (وَلَا نَكِيرَ) عَلَيْهِمْ فَكَانَ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا عَلَى جَوَازِ اتِّبَاعِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ مُطْلَقًا.

قَالَ

<<  <  ج: ص:  >  >>