للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَرْضِ الشَّارِبَةِ مِنْهُ

وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحْمِيَ أَرْضًا مِنَ الْمَوَاتِ تَرْعَى فِيهَا دَوَابُّ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَقُومُ بِحِفْظِهَا، مَا لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى النَّاسِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَمَا

ــ

[المبدع في شرح المقنع]

أَرْضًا فِي أَوَّلِ النَّهْرِ أَوْ غَيْرَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ مِنْهُ رُبَّمَا احْتَاجَ إِلَى تَصَرُّفٍ فِي أَوَّلِ حَافَّةِ النَّهْرِ الْمَمْلُوكِ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ فَاضَ مَاءُ هَذَا النَّهْرِ إِلَى أَرْضِ إِنْسَانٍ فَهُوَ مُبَاحٌ كَالطَّائِرِ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْبَعُ الْمَاءِ مَمْلُوكًا بِأَنْ يَشْتَرِكَ جَمْعٌ فِي اسْتِنْبَاطِ عَيْنٍ وَإِجْرَائِهَا، فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا، وَيَشْتَرِكُونَ فِيهَا، وَفِي سَاقِيَتِهَا عَلَى حَسَبِ النَّفَقَةِ وَالْعَمَلِ فِيهَا.

[لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْمِيَ أَرْضًا مِنَ الْمَوَاتِ]

(وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحْمِيَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ، أَيْ يَمْنَعُ (أَرْضًا مِنَ الْمَوَاتِ تَرْعَى فِيهَا دَوَابُّ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَقُومُ بِحِفْظِهَا) كَخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ، وَإِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَضَوَالِّ النَّاسِ لِمَا رَوَى عُمَرُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمَى النَّقِيعَ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ» ، رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، النَّقِيعُ بِالنُّونِ مَوْضِعٌ يُنْتَقَعُ فِيهِ الْمَاءُ، فَيَكْثُرُ فِيهِ الْخِصْبَ، وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِلَادُنَا قَاتَلْنَا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمْنَا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ عَلَامَ نَحْمِيهَا؟ قَالَ: فَأَطْرَقَ عُمَرُ وَجَعَلَ يَنْفُخُ وَيَفْتِلُ شَارِبَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى الْأَعْرَابِيُّ مَا بِهِ جَعَلَ يُرَدِّدُ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: الْمَالُ مَالُ اللَّهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَوْلَا مَا أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ مِنَ الْأَرْضِ شِبْرًا فِي شِبْرٍ.

قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ كُلَّ عَامٍ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنَ الظَّهْرِ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً، فَجَازَ لِلْإِمَامِ فِعْلُهَا كَسَائِرِ الْمَصَالِحِ (مَا لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى النَّاسِ) لِأَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يَحْمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ إِذَا انْتَجَعَ بَلَدًا، أَقَامَ كَلْبًا عَلَى نَشَزٍ ثُمَّ اسْتَعْوَاهُ، وَوَقَّفَ لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ مَنْ يَسْمَعُ صَوْتَهُ بِالْعُوَاءِ، فَحَيْثُ انْتَهَى صَوْتُهُ حَمَاهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ لِنَفْسِهِ، وَيَرْعَى مَعَ النَّاسِ فِيمَا سِوَاهُ، فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الضِّيقِ عَلَى النَّاسِ، وَمَنْعِهِمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ (وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ) أَيْ لِغَيْرِ الْإِمَامِ، فَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ كَانَ يَحْمِي لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَحْمِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا حَمَى لِلْمُسْلِمِينَ، وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا إِلَّا قَدْرًا لَا يُضَيَّقُ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَضُرُّهُمْ.

(وَمَا حَمَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ) أَيْ: مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>