للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ» وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْن هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَمَرَ بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُومِ وَبِعَدَمِ إدَامَةِ النَّظَرِ إلَيْهِ وَبِرُجُوعِهِ وَمُبَايَعَتِهِ مِنْ بَعِيدٍ شَفَقَةً عَلَى أُمَّتِهِ وَخَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَ مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ بِالْمُخَالَطَةِ وَغَيْرِهَا الْجُذَامُ فَيَسْبِقُ إلَى قَلْبِ بَعْضِهِمْ أَنَّ نَحْوَ الْجُذَامِ يُعْدِي بِطَبْعِهِ.

وَهُوَ اعْتِقَادُ بَعْضِ الْكُفَّارِ كَمَا يَأْتِي وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فَهُوَ انْتِفَاءُ الْعَدْوَى أَصْلًا فَقَدْ نَفَاهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ رَدًّا عَلَى مَنْ أَثْبَتَهَا فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلُ وَبِقَوْلِهِ لَا عَدْوَى الْحَدِيث وَبِقَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا وَلِهَذَا أَكَلَ مَعَ الْمَجْذُومِ ثِقَةً بِاَللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ وَبِذَلِكَ عُلِمَ الْجَمْعُ بَيْن هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَجَمَعَ بَيْنَهَا أَيْضًا بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاطَبَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ فَبَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ قَوِيَّ الْإِيمَانِ فَخَاطَبَهُ بِطَرِيقِ التَّوَكُّلِ وَبَعْضُهُمْ لَا يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ فَخَاطَبَهُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالتَّحَفُّظِ وَقَدْ فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَالَتَيْنِ مَعًا فَاجْتَنَبَ الْمَجْذُومَ تَارَةً رِعَايَةً لِمَا فِيهِ مِنْ الْبَشَرِيَّةِ وَخَالَطَهُ تَارَةً أُخْرَى لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُوَّةِ الْإِلَهِيَّة وَأَيْضًا فَلِيَتَأَسَّى بِهِ كُلٌّ مِنْ سَالِكِي الْمَقَامَيْنِ.

وَيَكُونُ لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنْ النَّاسِ حُجَّةٌ بِحَسْبِ حَالِهِمْ وَعَلَى مَا يَلِيقُ بِهِمْ وَاَلَّذِي مَالَ إلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ الْجَمْعُ الْأَوَّلُ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَاضَ الْمُعْدِيَةَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْرِ إضَافَة شَيْءٍ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأُبْطِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتِقَادُهُمْ بِقَوْلِهِ لَا عَدْوَى وَأَرْشَدَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إلَى مُجَانَبَة مَا قَدْ يَحْصُلُ عِنْدَهُ عَادَةُ الضَّرَرِ بِقَضَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَدَرِهِ.

وَأَجَابَ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِأَنَّ الْقُرْب مِنْ الْمَجْذُومِ وَصَاحِبِ السُّلِّ قَدْ يُؤَدِّي إلَى السَّقَمِ لَكِنْ بِالرَّائِحَةِ لَا بِالْعَدْوَى وَرَدَّ بِأَنَّ الرَّائِحَةَ مِنْ أَحَدِ أَسْبَابِ الْعَدْوَى وَأَجَابَ الطَّبَرَانِيُّ بِأَنَّ أَمْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَجَنُّبِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ وَمَخَافَةِ مَا يَقَعُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْعَدْوَى ثُمَّ فَعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ حَيْثُ خَالَطَ وَقَالَ لَا عَدْوَى لِيُبَيِّنَّ أَنَّ أَمَرَهُ بِالْفِرَارِ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ.

وَقَالَ الْبَاجِيُّ الْأَمْرُ بِالْفِرَارِ لِلْإِبَاحَةِ أَيْ إذَا لَمْ تَصْبِرْ عَلَى أَذَاهُ وَكَرِهْت مُخَالَطَتَهُ فَيُبَاحُ لَك أَنْ تَفِرَّ مِنْهُ وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلْ مَعَ الْمَجْذُومِ وَبَيْنَك وَبَيْنَهُ قِيدُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ» وَقِيدُ بِكَسْرِ الْقَافِ بِمَعْنَى قَدْرُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا «أَنَّهُ مَرَّ عَلَى الْجَذْمَى فَخَمَّرَ أَيْ غَطَّى أَنْفَهُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قُلْت لَا عَدْوَى قَالَ بَلَى وَلَكِنْ أَقَذَرُهُمْ» قَالَ وَكِيعٌ أَحَدُ رُوَاتِهِ هَذَا رُخْصَةٌ

وَأَجَابَتْ عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَغَيْرُهَا بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِرَارِ وَنَحْوِهِ مَنْسُوخٌ بِخَبَرِ لَا عَدْوَى وَنَحْوِهِ وَبِمُوَاكَلَتِهِ لِلْمَجْذُومِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ بِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ» وَبِحَدِيثِ «لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْ الْأَوَّلِ فَرَاجَعُوهُ فِيهِ وَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَاك تُحَدِّثُهُ فَأَبَى أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ.

قَالَ أَبُو سَلَمَةَ الرَّاوِي عَنْهُ فَلَا أَدْرِي أَنْسِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَوْ نُسِخَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ بِالْآخَرِ أَيْ الْعَدْوَى بَاقِيَةٌ وَالْأَمْرُ بِالْفِرَارِ مَنْسُوخٌ وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالًا أَرْبَعَةً الْأَوَّلُ أَنَّ الْمَرَضَ يُعْدِي بِطَبْعِهِ وَحْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ الْكُفَّارِ الثَّانِي أَنَّ الْمَرَضَ يُعْدِي بِأَمْرٍ خَلَقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَوْدَعَهُ فِيهِ وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُ أَصْلًا إلَّا إنْ وَقَعَ لِصَاحِبِ مُعْجِزَةٍ أَوْ كَرَامَةٍ فَيَتَخَلَّفُ وَهَذَا مَذْهَبٌ إسْلَامِيٌّ لَكِنَّهُ مَرْجُوحٌ الثَّالِثُ أَنَّ الْمَرَضَ يُعْدِي لَكِنْ لَا بِطَبْعِهِ بَلْ بِعَادَةٍ أَجْرَاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِ عَادَةً وَقَدْ تَتَخَلَّفُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نُدُورٍ فِي الْعَادَةِ الرَّابِعُ أَنَّ الْمَرَضَ لَا يُعْدِي أَصْلًا لَا طَبْعًا وَلَا عَادَةً بَلْ مَنْ اتَّفَقَ لَهُ وُقُوعُ ذَلِكَ الْمَرَضِ فَهُوَ بِخَلْقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ فِيهِ ابْتِدَاءً.

وَلِهَذَا نَرَى الْكَثِيرَ مِمَّنْ يُصِيبُهُ الْمَرَضُ الَّذِي يُقَالُ أَنَّهُ يُعْدِي يُخَالِطُهُ الصَّحِيحُ كَثِيرًا وَلَا يُعْدِيه وَلَا يُصِيبُهُ مِنْهُ شَيْءٌ وَالرَّاجِحُ هُوَ الْأَخِيرُ وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ مَشْهُورًا أَيْضًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا» وَقَوْلُهُ فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلُ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مَعْنَى لَا عَدْوَى أَنَّهُ لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا بِطَبْعِهِ حَتَّى يَكُونَ الضَّرَرُ مِنْ قِبَلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِعْلِهِ وَإِرَادَتِهِ قِيلَ وَلَا عَدْوَى نُهِيَ عَنْ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ أَوْ يُعْتَقَدَ وَقِيلَ هُوَ خَبَرٌ أَيْ لَا يَقَعُ وَمَعْنَى الطِّيَرَةِ التَّشَاؤُمُ مِنْ التَّطَيُّرِ مَصْدَرُ تَطَيَّرَ يَتَطَيَّرُ طِيَرَةً مَأْخُوذٌ مِنْ اسْمِ الطَّيْرِ.

وَقَدْ كَانَتْ

<<  <  ج: ص:  >  >>