للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ إزَالَةُ بُصَاقٍ رَآهُ فِي الْمَسْجِدِ؛ كَمَنْ رَأَى نَجَاسَةً فِيهِ أَيْ غَيْرِ مَعْفُوٍّ عَنْهَا كَذَرْقِ الطَّيْرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ عَيْنًا إزَالَتُهَا فَوْرًا؛ لِأَنَّهَا أَفْحَشُ، انْتَهَتْ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ مَسْجِدٍ لَا مُرْتَفَقَ لَهُ إلَّا مَحَلٌّ بِرَحْبَتِهِ يَبُولُ النَّاسُ فِيهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ هَذَا حَادِثٌ مَمْنُوعٌ عَنْهُ أَوْ أَصْلِيٌّ اسْتَثْنَاهُ الْوَاقِفُ، وَإِنَّمَا الَّذِي عُرِفَ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا يَفْعَلُونَ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ؛ فَهَلْ يَسُوغُ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ، يَجُوزُ بَقَاءُ ذَلِكَ عَلَى مَا اطَّرَدَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ؛ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّا لَوْ رَأَيْنَا جُذُوعًا عَلَى جِدَارِهِ وَلَمْ نَعْلَمْ هَلْ وُضِعَتْ بِحَقٍّ أَوْ لَا - أَبْقَيْنَاهَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَضْعُهَا بِحَقٍّ، فَلَا تُزَالُ إلَّا إنْ عُرِفَ تَعَدِّي وَاضِعِهَا، وَلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ حَكَمُوا فِيهَا بِبَقَاءِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وُضِعَ بِحَقٍّ وَلَمْ يَثْبُتْ تَعَدِّي وَاضِعِهِ، فَكَذَا هَذَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ وُضِعَ بِحَقٍّ، وَلَمْ يُعْلَمْ تَعَدِّي النَّاسِ بِذَلِكَ فَيُقَرُّونَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَفْتَى أَبُو مَخْرَمَةَ بِأَنَّ الْجِرَارَ وَالْخَوَابِيَ الَّتِي عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فِيهَا الْمَاءُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ لِلشُّرْبِ أَوْ الْوُضُوءِ وَنَحْوِهِ - يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى مَا عُهِدَ فِيهَا عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَمَحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ، وَكَأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ كَذَلِكَ اهـ وَأَفْتَى النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ مَسْجِدٌ فِيهِ قَنَاةٌ تَحْتَ الْأَرْضِ يَجْرِي فِيهَا مَاءٌ إلَى أَمَاكِنَ، وَفِيهِ مَكَانٌ تَصْلُحُ مِنْهُ الْقَنَاةُ بِوَضْعِ الزِّبْلِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْقَنَاةَ عُمِّرَتْ قَبْلَ الْمَسْجِدِ أَوْ بَعْدَهُ - فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عُمِّرَتْ قَبْلَهُ؛ فَلَيْسَ لِنَاظِرِهِ تَغْيِيرُ ذَلِكَ، وَلَا الْمَنْعُ مِنْ إدْخَالِ الزِّبْلِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، وَلَا يُكَلَّفُ أَصْحَابُ الْقَنَاةِ الْبَيِّنَةَ بَلْ يَكْفِي اسْتِمْرَارُ الِانْتِفَاعِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ عُدْوَانٌ اهـ فَتَأَمَّلْ تَعْوِيلَهُ عَلَى الْقَرِينَةِ تَجِدْهُ صَرِيحًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. وَيُوَافِقُهُ قَوْلُهُ فِي الرَّوْضَةِ: لَوْ مَرَّ مُسَافِرٌ بِخَابِيَةِ مَاءٍ مُسَبَّلٍ تَيَمَّمَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، فَحُكْمُ الْقَرِينَةِ هُنَا؛ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ وَضْعِ الْخَابِيَةِ بِطَرِيقِ الْمُسَافِرِ أَنَّهُ لِشُرْبِهِ لَا لِوُضُوئِهِ.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمَّنْ عَلِمَ بِنَجَاسَةٍ بِمَسْجِدٍ هَلْ يَلْزَمُهُ إعْلَامُ النَّاسِ بِهَا أَوْ بِمَحَلِّهَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: مَنْ عَلِمَ بِنَجَاسَةٍ فِي الْمَسْجِدِ لَزِمَهُ إزَالَتُهَا فَوْرًا، وَمَتَى قَصَّرَ فِي ذَلِكَ أَوْ تَرَاخَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَثِمَ، وَمَنْ رَأَى مُصَلِّيًا بِنَجَسٍ لَا يُعْفَى عَنْهُ فِي ثَوْبِهِ أَوْ مَكَانِهِ - لَزِمَهُ إعْلَامُهُ، فَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ نَاسٍ لَهُ فَاَلَّذِي يَتَّجِهُ - أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: يُسَنُّ إيقَاظُ النَّائِمِ لِلصَّلَاةِ، وَلَا يَجِبُ، وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ - أَنَّهُ لَا يَجِبُ إعْلَامُهُ بَلْ يُسَنُّ.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمَّا اعْتَادَهُ الصُّوفِيَّةُ مِنْ عَقْدِ حِلَقِ الذِّكْرِ وَالْجَهْرِ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ هَلْ فِيهِ كَرَاهَةٌ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ أَحَادِيثَ اقْتَضَتْ طَلَبَ الْجَهْرِ نَحْوَ: «وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَاَلَّذِي فِي الْمَلَإِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ جَهْرٍ، وَكَذَا حِلَقُ الذِّكْرِ وَطَوَافُ الْمَلَائِكَةِ بِهَا، وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَهْرِ بِالذِّكْرِ.

وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيّ: «مَرَّ بِرَجُلٍ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَائِيًا، قَالَ: لَا وَلَكِنَّهُ أَوَّاهٌ وَأُخْرَى اقْتَضَتْ طَلَبَ الْإِسْرَارِ؛» بِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، كَمَا جَمَعَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِذَلِكَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الطَّالِبَةِ لِلْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَالطَّالِبَةِ لِلْإِسْرَارِ بِهَا؛ فَحِينَئِذٍ لَا كَرَاهَةَ فِي الْجَهْرِ بِالذِّكْرِ أَلْبَتَّةَ؛ حَيْثُ لَا مُعَارِضَ بَلْ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ إمَّا صَرِيحًا أَوْ الْتِزَامًا، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ خَبَرَ الذِّكْرِ الْخَفِيِّ، كَمَا لَا يُعَارَضُ أَحَادِيثُ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ بِخَبَرِ «السِّرُّ بِالْقُرْآنِ كَالسِّرِّ بِالصَّدَقَةِ» ، وَقَدْ جَمَعَ النَّوَوِيُّ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْإِخْفَاءَ أَفْضَلُ حَيْثُ خَافَ الرِّيَاءَ أَوْ تَأَذَّى بِهِ مُصَلُّونَ أَوْ نِيَامٌ.

وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ أَكْثَرُ؛ وَلِأَنَّ فَائِدَتَهُ تَتَعَدَّى لِلسَّامِعِينَ؛ وَلِأَنَّهُ يُوقِظُ قَلْبَ الْقَارِئِ وَيَجْمَعُ هَمَّهُ إلَى الْفِكْرِ وَيَصْرِفُ سَمْعَهُ إلَيْهِ وَيَطْرُدُ النَّوْمَ وَيَزِيدُ النَّشَاطَ؛ فَكَذَلِكَ الذِّكْرُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.

وقَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف: ٢٠٥] الْآيَةَ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ كَآيَةِ الْإِسْرَاءِ {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: ١١٠] وَقَدْ نَزَلَتْ حِينَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ فَيَسْمَعُهُ الْمُشْرِكُونَ؛ فَيَسُبُّونَ الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ، فَأُمِرَ بِتَرْكِ الْجَهْرِ؛ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ كَمَا نُهِيَ عَنْ سَبِّ الْأَصْنَامِ كَذَلِكَ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى، أَشَارَ لِذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَبِأَنَّ بَعْضَ شُيُوخِ مَالِكٍ وَابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِمَا حَمَلُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>