للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذَلِكَ الْبَأْسِ بِمَا وَقَعَ لَهُ مِنْ الْإِنْكَارِ وَعَدَمِ قَبُولِهِ ثُمَّ قَبُولُهُ عِنْدَ لُبْسِ ذَلِكَ الشِّعَارِ وَلَا إلَى أَنَّ فِيهِ أَجْرًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَعُلِمَ قَطْعًا مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ هَذَا الشِّعَارَ لَيْسَ عَلَى قَانُونِ السُّنَّةِ وَأَنَّهُ فِي أَصْلِهِ مَذْمُومٌ إلَّا إذَا لُبِسَ بِذَلِكَ الْقَصْدِ الصَّالِحِ فَحِينَئِذٍ لَا ذَمَّ فِيهِ بَلْ فِيهِ الْأَجْرُ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا بَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَحَفَّظَ أَوَّلًا وَثَانِيًا بِمَا ذُكِرَ وَقَوْلُهُ فَقَيَّدَ الْعَالِمَ إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ لَا يُنَافِي لُبْسَهُ شِعَارَ أَهْلِ الدُّنْيَا بِقَصْدِ صَالِحٍ أُخْرَوِيٍّ وَهُوَ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ.

وَمِنْ ثَمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَقَعَ لَهُ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يُؤْثِرُ التَّقَشُّفَ فِي لِبَاسِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ بِبَلَدِهِ مِصْرَ لَمْ يَحْتَجْ لِلُبْسِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ فِيهَا مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ نَافِذُ الْكَلِمَةِ حَتَّى عَلَى الْمُلُوكِ لِأَنَّهُمْ فِي أَسْرِهِ وَتَحْتَ حُكْمِهِ فَلَمَّا جَاءَ إلَى مَكَّةَ لَمْ يُعْرَفْ بِهَا كَمَا هُوَ بِبَلَدِهِ فَأَمَرَ وَهُوَ بِتِلْكَ الثِّيَابِ فَلَمْ يُؤْبَهْ لَهُ فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ حِينَئِذٍ مِنْ لُبْسِ شِعَارِ الْعُلَمَاءِ فَلَبِسَهُ حِينَئِذٍ لِتَنْفِيذِ أَمْرِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَمْ يُنْقِصْهُ لُبْسُ ذَلِكَ اللِّبَاسِ الْخَارِجِ عَنْ السُّنَّةِ فِي أَصْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْهُ لِشَهْوَةِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا لَبِسَهُ لِقَصْدٍ صَالِحٍ فَأُجِرَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ. فَصَحَّ الِاسْتِدْلَالِ بِكَلَامِهِ هَذَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ أَوَّلًا أَنَّ اللِّبَاسَ الْخَارِجَ عَنْ السُّنَّةِ إذَا لُبِسَ بِقَصْدِ صَالِحٍ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ.

وَقَوْلُهُ: وَلَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ فِي أَنَّ إضَاعَةَ الْمَالِ. . . إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ إنْ أَرَدْت إضَاعَةَ الْمَالِ فِيمَا لَا غَرَضَ لِعَاقِلٍ كَرَمْيِهِ فِي بَحْرٍ فَمُسَلَّمٌ لَك ذِكْرُ الْإِجْمَاعِ الَّذِي ادَّعَيْتُهُ وَلَكِنْ لَا حُجَّةَ لَك فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ كَلَامُك فِيهِ وَإِنْ أَرَدْت أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ صَرِيحُ كَلَامِك أَنَّهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَهَذَا تَجَاسُرٌ مِنْك عَلَى دَعْوَى الْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّوْسِيعَ وَالتَّطْوِيلَ الَّذِي لَيْسَ بِقَصْدِ الْكِبْرِ مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ بِخِلَافِهِ مَعَ قَصْدِ الْكِبْرِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ لَا لِلتَّوْسِيعِ وَالتَّطْوِيلِ. بَلْ لِقَصْدِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ الْكِبْرُ وَمَنْ عَلَّلَ ذَلِكَ بِالسَّرَفِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ كَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مُرَادُهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ شَبَهًا مَا بِإِضَاعَةِ الْمَالِ لِأَنَّ مَا يُصْرَفُ فِي زِيَادَةِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ.

وَأَمَّا حَقِيقَةُ إضَاعَةِ الْمَالِ فَلَا لِأَنَّ فِي ذَلِكَ أَغْرَاضًا لِلْعُقَلَاءِ مِنْهَا أَنَّ التَّوْسِيعَ لَا يُسْرِعُ التَّقَطُّعُ لَهُ وَأَنَّهُ إذَا خَلِقَ الثَّوْبُ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُرَقِّعُ فِي بَاقِيهِ وَأَنَّهُ رُبَّمَا يَضَعُ فِي كُمِّهِ مَا يَعْرِضُ لَهُ حَمْلُهُ وَلَا يَجِدُ لَهُ إنَاءً وَالْأَغْرَاضُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فَأَيُّ إضَاعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ مَعَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ فَكَيْفَ يُقْتَدَى بِعَالِمٍ وَقَعَ فِي مُحَرَّمَاتٍ ثَلَاثٍ. . . إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ إطْلَاقُك تَحْرِيمَ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا قَدْ يَحْرُمُ وَقَدْ لَا يَحْرُمُ بِاتِّفَاقٍ مِنْ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِك أَمَّا لِلْبِدْعَةِ فَوَاضِحٌ وَأَمَّا السَّرَفُ وَإِضَاعَةُ الْمَالِ فَالْكَلَامُ فِي سَرَفٍ وَإِضَاعَةِ مَالٍ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَكَيْفَ بِهَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ الْمُوهِمَةِ وَقَوْلُهُ: وَكَيْفَ يَتَعَلَّقُونَ بِفَتْوَاهُ. . . إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ قَدْ بَيَّنَّا السَّبَبَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ كَانَ فِي بَلَدِهِ مَشْهُورًا لَا يَحْتَاجُ إلَى لُبْسُ شَيْءٍ فَلَمْ يَلْبَسْهُ ثُمَّ لَمَّا رَحَلَ لِمَا لَا يُعْرَفُ فِيهِ لُبْسُ شِعَارِ أَهْلِ الدُّنْيَا بِقَصْدِ صَالِحٍ جَمِيلٍ عَمَلًا بِقَضِيَّةِ الْكَمَالِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَكْمَلُ فِي إبْلَاغِ الْحَقِّ وَتَنْفِيذِهِ وَقَوْلُهُ: يُبْطِلُ مَا تُوُهِّمَ عَنْهُ. . . إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ شَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ.

إذْ تَحْسِينُ نَحْوِ الْخِيَاطَةِ لَمْ يُعْهَدْ شِعَارًا لِلْعُلَمَاءِ فَقَالَ فِيهِ الْعِزُّ مَا قَالَ إذْ لَيْسَ فِيهِ غَرَضٌ صَالِحٌ غَالِبًا بِخِلَافِ لُبْسِ شِعَارِ الْعُلَمَاءِ لِلْقَصْدِ الصَّالِحِ وَقَوْلُهُ فَاتَّضَحَ بُطْلَانُ مَا نَسَبُوهُ لِهَذَا الْإِمَامِ يُقَالُ عَلَيْهِ لَمْ يَتَّضِحْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا اتَّضَحَ بُطْلَانُ مَا رَدَدْت عَلَيْهِمْ بِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قِيَامُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُعْرَفُ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ فَلَمَّا حَدَثَ تَطَابَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَصَارَ تَرْكُهُ لِإِنْسَانٍ قَطِيعَةً يَتَوَلَّدُ عَلَيْهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا لَا يَخْفَى اسْتَحَبَّهُ أَئِمَّتُنَا بَلْ أَوْجَبُوهُ لِذَلِكَ وَالْكَلَامُ فِي قِيَامِ لُبْسِ الْعَالِمِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يُسَنُّ الْقِيَامُ لَهُمْ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ خَيْطِ الْقَصَبِ الْمُسَمَّى بِالْكَرْكَرِ هَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْكَوَافِي وَالْقَمِيصِ أَوْ لَا مَعَ أَنَّ أَهْلَ مِلِيبَارَ مُطْبِقُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي ذَلِكَ وَالْحَالُ أَنَّهُ تُخْرَجُ مِنْهُ الْفِضَّةُ إذَا سُبِكَ وَلَوْنُهُ يُشْبِهُ لَوْنَ الذَّهَبِ فَمَا حُكْمُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ اسْتِعْمَالُهُ فِي خِيَاطَةِ ثَوْبٍ وَلَا غَيْرِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>