للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يَمْنَعُ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْبَغَوِيّ لِذَلِكَ وَأَطَالَ وَأَفْتَى الْبَغَوِيّ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: بَاعَنِي هَذِهِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً وَحَكَمَ لَهُ بِهَا الْقَاضِي ثُمَّ ادَّعَى آخَرُ أَنَّهَا رَهْنٌ مِنْهُ مَقْبُوضٌ لَهُ قَبْلَ الْبِيَعِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِذَلِكَ حُكِمَ بِالرَّهْنِ وَبَطَلَ الْبَيْعُ اهـ. فَتَأَمَّلْ مَا قَالَهُ سِيَّمَا تَعْلِيلُهُ لِلْمَسْأَلَةِ الْأُولَى تَجِدْهُ مُوَافِقًا لِمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ، بَلْ نَصٌّ فِيهِ، وَلَوْ اسْتَحْضَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ لَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا قَالَهُ، فَإِنَّ عِلَّةَ الْبَغَوِيِّ هِيَ بِعَيْنِهَا عِلَّةُ ابْنِ الصَّلَاحِ أَوْ قَرِيبَةٌ مِنْهَا، إذْ حَاصِلُهَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ إذَا كَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى أُخْرَى قَبْلَ الْحُكْمِ. تَكُونُ مُقَدَّمَةً عَلَيْهَا بَعْدَهُ، وَمَرَّ أَنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ إنَّمَا قَدَّمَ الْبَيِّنَةَ الشَّاهِدَةَ بِالزِّيَادَةِ

لِأَنَّهُمَا لَوْ تَعَارَضَتَا قَبْلَ الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ السُّبْكِيّ وَكَلَامُ الْبَغَوِيِّ الَّذِي ذَكَرْته صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، وَبِهَذَا الَّذِي عَلِمْت أَنَّهُ مَنْقُولُ الْبَغَوِيِّ يَتَّضِحُ لَك رَدُّ مَا أَطَالَ بِهِ السُّبْكِيّ فِي فَتَاوِيهِ وَغَيْرِهَا رَدًّا عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَسَائِرُ النَّاقِلِينَ لِكَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ لَمْ يُؤَيِّدُوهُ بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ غَيْرِ مَا أَيَّدَ هُوَ بِهِ مِمَّا مَرَّ وَبِحَمْدِ اللَّهِ قَدْ تَأَيَّدَ بِمَسَائِلَ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا لَمْ أَمْشِ هُنَا عَلَى إطْلَاقِهِ النَّقْضَ بَلْ خَصَّصْته بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ. وَهِيَ مَا إذَا قُطِعَ بِكَذِبِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ الْأَحْوَطُ اللَّائِقُ بِالْفَتَاوَى سِيَّمَا مَعَ مَا غَلَبَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ مِنْ شَهَادَاتِ الزُّورِ وَالْأَحْكَامِ الْبَاطِلَةِ مِنْ الْقُضَاةِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ أَعْنِي السُّبْكِيّ فِي فَتَاوِيهِ أَيْضًا أَنَّ قَاضِيَ الْمَقْدِسِ أَذِنَ لِمَنْ عَوَّضَ امْرَأَةً مُرْتَهِنَةً مَا رَهَنَهُ الدَّائِنُ عِنْدَهَا. لِغَيْبَتِهِ بَعْدَ أَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَنَّ قِيمَتَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّ قِيمَتَهُ يَوْمَ التَّعْوِيضِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَنَّ نَائِبَ الْحَكَمِ بِالْقُدْسِ أَرْسَلَ إلَى دِمَشْقَ فَتَاوَى فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ لَهُ عُلَمَاؤُهَا: إذَا ثَبَتَ أَنَّ قِيمَةَ الرَّهْنِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ قُدِّمَتْ الْبَيِّنَةُ الَّتِي شَهِدَتْ بِالزِّيَادَةِ لَمْ يُنَازِعْهُمْ السُّبْكِيّ فِي هَذَا الْإِفْتَاءِ. وَلَمْ يَعْتَرِضْهُ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ وَإِنَّمَا نَازَعَ النَّائِبَ الْمَذْكُورَ بِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْفَتَاوَى كَلَامٌ مُخْلِصٌ، لَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ النَّائِبَ وَبَيَّنَ ذَلِكَ وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ عُلَمَاءَ دِمَشْقَ الَّذِينَ فِي زَمَنِ السُّبْكِيّ كَانُوا مُوَافِقِينَ لِابْنِ الصَّلَاحِ، فَإِنْ قُلْت: مَسْأَلَتُنَا هَذِهِ لَا حُكْمَ فِيهَا فَلَا تُشْبِهُ صُورَةَ ابْنِ الصَّلَاحِ قُلْت: بَلْ فِيهَا حُكْمٌ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْحَاكِمِ فِي قَضِيَّةٍ رُفِعَتْ إلَيْهِ وَطُلِبَ مِنْهُ فَصْلُهَا حُكْمٌ وَهَذِهِ الصُّورَةُ كَذَلِكَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ لَك عَنْ السُّبْكِيّ مَا ذَكَرْته اتَّضَحَ أَنَّهُ هُوَ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُمَا مُتَّفِقُونَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي قَدَّمْتهَا عَلَى نَقْضِ الْحُكْمِ فِيهَا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ وَيُوَافِقُ مَا ذَكَرْته فِيهَا قَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ فِي فَتَاوِيهِ.

مَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ نَاظِرٍ شَرْعِيٍّ أَجَرَ بِأُجْرَةٍ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَحُكِمَ بِهَا فَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أُخْرَى بِأَنَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ وَبَانَ بِهَا أَنَّ الْأُولَى لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِأُجْرَةِ الْأَرَاضِيِ، فَهَلْ يُنْقَضُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِمُوجَبِ الْأُولَى؟

فَأَجَابَ: بِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بَعْدَ وُقُوعِهِ إلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ. أَوَّلُهُمَا: إذَا بَانَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْأُولَى لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِمَا شَهِدَتْ بِهِ، وَاسْتَشْكَلَهُ بِأَنَّهُ كَيْفَ يَتَبَيَّنُ بِالْبَيِّنَةِ وَهِيَ شَهَادَةُ نَفْيٍ أَوْ بِاعْتِرَافِهِمَا وَهُوَ لَا يُفِيدُ بَعْدَ الْحُكْمِ؟ وَيُجَابُ بِالْتِزَامِ تَبَيُّنِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهَا شَهَادَةَ نَفْيٍ مَحْصُورٍ وَالشَّهَادَةُ بِهِ مَسْمُوعَةٌ. وَيَدُلُّ لَهُ مَا قَدَّمْته عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَنَّ شَهَادَةَ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّهُ بَيْعٌ بِلَا حَاجَةٍ مَقْبُولَةٍ، وَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى أَنَّ هَذَا نَفْيٌ لِمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّهُ نَفْيٌ مَحْصُورٌ ثَانِيهمَا أَنْ تُفِيدَ الْبَيِّنَةُ. الثَّانِيَةُ: تَعَيُّنُ كَذِبِ الْأُولَى بِأَنْ تَبْلُغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ إذْ لَا يَنْتَهِي الْحَالُ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ عِنْدَ التَّعَارُضِ إلَى الْقَطْعِ بِكَذِبِ إحْدَاهُمَا إلَّا إنْ وَصَلَتْ الْأُخْرَى إلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، فَإِنَّ التَّوَاتُرَ مَتَى خَالَفَ الْآحَادَ عُلِمَ كَذِبُ الْآحَادِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قُوَّةِ مَالِكِ الْأَرْضِ وَضَعْفِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ثُمَّ قَالَ: قَدْ يُخَالِفُ مَا أَفْتَيْت بِهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَذَكَرَ مَا مَرَّ عَنْهُ ثُمَّ اعْتَرَضَهُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ صُورَتِهِ وَمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ، بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الَّتِي أَقَامَهَا الدَّاخِلُ لَوْ كَانَ أَقَامَهَا قَبْلُ، امْتَنَعَ الْحُكْمُ لِغَرِيمِهِ، وَوَجَبَ الْحُكْمُ لَهُ بِخِلَافِ صُورَةِ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ الْمُعَارِضَةَ لَوْ أُقِيمَتْ مِنْ الْأَوَّلِ مَنَعَتْ الْحُكْمَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، لِتَعَارُضِهِمَا وَتَسَاقُطِهِمَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>