للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حَرَامٍ.

وَمِنْ الْمُشَاهَدَةِ أَنَّ بَعْضَ النَّوَاحِي يَكْثُرُ فِيهَا الصَّالِحُونَ وَالْمُتَّقُونَ، وَبَعْضَهَا يَقِلُّونَ فِيهِ، وَلَقَدْ اسْتَقْرَيْنَا سَبَبَ ذَلِكَ فَلَمْ نَجِدْهُ غَيْرَ أَكْلِ الْحَلَالِ أَوْ قِلَّةِ تَعَاطِي الشُّبُهَاتِ، فَكُلُّ نَاحِيَةٍ كَثُرَ الْحِلُّ فِي قُوتِ أَهْلِهَا كَثُرَ الصَّالِحُونَ فِيهَا وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ، إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمُعْتَمَدُ مَذْهَبِنَا أَنَّ مُعَامَلَةَ مَنْ أَكْثَرُ أَمْوَالِهِ حَرَامٌ مَكْرُوهَةٌ لَا مُحَرَّمَةٌ، وَقَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ: إنَّهَا مُحَرَّمَةٌ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، كَمَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، فَعَلَيْهِ يَجُوزُ الْأَخْذُ مِنْ مَالِ السُّلْطَانِ مُطْلَقًا مَا لَمْ يُعْلَمُ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْهُ أَنَّهُ حَرَامٌ فَلَا يَجُوزُ قَبُولُهُ، وَمَعَ الْجَوَازِ يَكُونُ الْآخِذُ تَحْتَ خَطَرِ احْتِمَالِ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ فَيَتَأَثَّرُ قَلْبُهُ بِهِ، بَلْ وَيُطَالَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ إنْ كَانَ الْمُعْطِي غَيْرَ مُسْتَقِيمِ الْحَالِ، كَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ الْبَغَوِيِّ، وَأَقَرُّوهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ مِنْ حَيْثُ الْمُؤَاخَذَةِ وَعَدَمِهَا، لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ إنْ كَانَ مُسْتَقِيمًا كَانَ مُعَامِلُهُ مَعْذُورًا وَإِلَّا فَلَا.

أَمَّا مِنْ حَيْثُ أَخْذِ حَسَنَاتِ آكِلِ الْحَرَامِ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ وَلَوْ مِمَّنْ ظَاهِرُهُ الِاسْتِقَامَةُ فِي مُقَابَلَةِ مَا أَكَلَهُ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ، فَالْبَغَوِيُّ لَا يُجْرِي تَفْصِيلَهُ فِي هَذَا، لِأَنَّ أَخْذَ الْحَسَنَاتِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُتَعَدِّي بِأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ وَعَدَمِهِ، كَمَا أَشَرْت إلَى ذَلِكَ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَعْصِ بِأَدَائِهِ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَالْحَاصِلُ: أَنَّ أَخْذَ الْحَسَنَاتِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ لَا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْمُتَعَدِّي وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْمُعَاتَبَةِ وَالْمُؤَاخَذَةِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ الْمُتَعَدِّي وَغَيْرِهِ، كَمَنْ عَامَلَ مَنْ ظَاهِرُهُ الظُّلْمُ أَوْ أَخْذُ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَغَيْرُ الْمُتَعَدِّي كَمَنْ عَامَلَ مَنْ ظَاهِرُهُ الْخَيْرُ.

وَالصَّلَاةُ فِي الْحَرَامِ الصِّرْفِ صَحِيحَةٌ وَلَا ثَوَابَ فِيهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِجَمْعٍ مُحَقِّقِينَ وَفِي الْمَشْكُوكِ فِي حُرْمَتِهِ فِيهَا الثَّوَابُ لِعَدَمِ التَّعَدِّي، وَدَعْوَى عَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْ الْحَرَامِ مَمْنُوعَةٌ، لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّهَا مُتَعَسِّرَةٌ.

وَلَقَدْ اُعْتُرِضَ قَوْلُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ يُسَنُّ لِلصَّائِمِ أَنْ يُفْطِرَ عَلَى مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ كَأَنْ يَغْتَرِفَ بِيَدِهِ مِنْ الدِّجْلَةِ، فَإِنَّ صَوَابَهُ أَنْ يَقُولَ: مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ النَّازِلِ مِنْهَا إلَى يَدِهِ، لِأَنَّ الدِّجْلَةَ أُمُّ الْفُرَاتِ يَخْرُجُ مِنْهَا فِي بِلَادِ التُّرْكِ بِرْكَةٌ يُحَوَّطُ عَلَيْهَا لِصَيْدِ السَّمَكِ فَيُمْلَكُ مَاؤُهَا، ثُمَّ يَنْفَتِحُ مَا يَسُدُّهَا فَيَنْزِلَ وَيَخْتَلِطَ بِالْفُرَاتِ أَوْ الدِّجْلَةِ، فَلَمْ يَخْلُ عَنْ الشُّبْهَةِ فَإِذَا رُوعِيَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ مَعَ نُدْرَتِهَا فَمَا ظَنُّك بِغَيْرِهَا.

وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مَعَ تَقَدُّمِهِ بِقُرُونٍ عَدِيدَةٍ الْآنَ أَيِسْنَا مِنْ الْحَلَالِ الْمَحْض، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشُّبْهَةَ كَثِيرَةٌ إذًا، وَأَنَّ التَّنَقِّيَ عَنْهَا مُتَعَسِّرٌ، وَأَنَّ غَايَةَ مَا يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُمْ بِسَبَبِهِ الْإِكْثَارُ مِنْ تَعَاطِي الشُّبْهَةِ وَالتَّقْلِيلُ مِنْهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُوَفِّقُنَا لِمَرْضَاتِهِ وَيُخَفِّفُ عَنَّا مَا تَحَمَّلْنَاهُ مِنْ عَظِيمِ مُخَالَفَاتِهِ وَبِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ.

(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ وَلَدِ وَلَدٍ قَالَ لِجَدَّتِهِ وَإِخْوَانُهُ حُضُورٌ: سُدُسُكِ مِنْ تَرِكَةِ وَالِدِنَا رَدَدْته عَلَيْنَا، قَالَتْ نَعَمْ رَدَدْته عَلَيْكُمْ ثُمَّ قَالَ لَهَا: وَالْحِصَّةُ الَّتِي قَدْرُهَا النِّصْفُ الْآيِلَةُ إلَيْك بِالْإِرْثِ مِنْ وَالِدِك لَنَا، قَالَتْ: نَعَمْ، فَهَلْ يَسْتَحِقُّونَ بِذَلِكَ سُدُسَهَا وَحِصَّتَهَا الْمَذْكُورَةَ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: قَوْلُهَا: رَدَدْته عَلَيْكُمْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ كِنَايَةُ هِبَةٍ، فَإِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُهَا وَقَبَضُوا الْمَوْهُوبَ بِإِذْنِهَا مَلَكُوهُ وَإِلَّا فَلَا، وَقَوْلُهَا: نَعَمْ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إقْرَارًا مَعَ قَوْلِهِ لَهَا الْآيِلَةُ إلَيْك بِالْإِرْثِ مِنْ وَالِدِك؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ، وَقَوْلُهُ: مَا ذُكِرَ فِيهِ الِاعْتِرَافُ لَهَا بِأَنَّهَا مَالِكَةٌ لِذَلِكَ حَالًا، وَالْمَمْلُوكُ حَالًا يَسْتَحِيلُ الْإِقْرَارِ بِهِ وَلَا بَيْعًا، لِعَدَمِ ذِكْرِ ثَمَنٍ، وَلَا هِبَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَعْدَ نَعَمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا يُكْتَفَى بِهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ قَبُولٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) هَلْ تَصِحُّ هِبَةُ الْمَنَافِعِ؟

(فَأَجَابَ) نَفَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ بِقَوْلِهِ: لِلْأَصْحَابِ فِيهَا وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَارِيَّةٌ لِلدَّارِ لَا تُمْلَكُ مَنَافِعُهَا بَلْ تَكُونُ إبَاحَةً، وَالثَّانِي: أَنَّهَا هِبَةٌ فَتَكُونُ أَمَانَةً فَلَا يَضْمَنُ الدَّارَ إنْ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ، وَرَجَّحَ الزَّرْكَشِيُّ تَبَعًا لِلْمَاوَرْدِيِّ الْأَوَّلَ، وَرَجَّحَ الْبُلْقِينِيُّ كَالسُّبْكِيِّ الثَّانِيَ، قَالَ: وَيَكُونُ قَبْضُ الْمَنَافِعِ بِاسْتِيفَائِهَا، وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الْبُلْقِينِيُّ فِي الْحَوَاشِي وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَمَا ذَكَرُهُ فِي غَيْرِ الْحَوَاشِي مِنْ أَنَّ الْهِبَةَ تَلْزَمُ بِقَبْضِ الدَّارِ، رَدَّهُ عَلَيْهِ تِلْمِيذُهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَقَالَ: لَا تَلْزَمُ إلَّا بِإِتْلَافِهَا، وَأَخَذَهُ مِنْ فَرْقِ السُّبْكِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ كَوْنِ الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ مَقْبُوضَةً بِقَبْضِ الدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يُتْلِفْ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ بِخِلَافِهِ فِي هِبَةِ الْمَنَافِعِ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِيهَا مُعَاوَضَةٌ فَكَانَتْ

<<  <  ج: ص:  >  >>