للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِاَللَّهِ مِنْهُ، وَأَيْضًا فَقَدْ شَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى عُقُوبَةَ قَوْمِ شُعَيْبٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ عَلَى بَخْسِهِمْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ.

فَإِنْ قُلْت: سَيَأْتِي فِي الْغَصْبِ أَنَّ غَصْبَ مَا دُونَ رُبْعِ دِينَارٍ لَا يَكُونُ كَبِيرَةً فَقَضِيَّتُهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَذَلِكَ.

قُلْت: ذَلِكَ مُشْكِلٌ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ بَلْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: إنَّهُ تَحْدِيدٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ انْتَهَى.

وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْغَصْبَ لَيْسَ مِمَّا يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَقَلِيلُهُ لَا يَدْعُو لِكَثِيرِهِ بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيلِ الْمَكْرِ وَالْخِيَانَةِ وَالْحِيلَةِ فَكَانَ قَلِيلُهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ فَتَعَيَّنَ التَّنْفِيرُ عَنْهُ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ كَبِيرَةٌ أَخْذًا مِمَّا قَالُوهُ فِي شُرْبِ الْقَطْرَةِ مِنْ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ كَبِيرَةٌ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهَا مَفْسَدَةُ الْخَمْرِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ، فَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ إلْحَاقُ جَمَاعَةٍ السَّرِقَةَ بِالْغَصْبِ كَمَا يَأْتِي فِيهَا، لِأَنَّ السَّارِقَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ الْخَوْفِ فَهُوَ غَيْرُ مُمَكَّنٍ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ الْقَلِيلَ يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ بِخِلَافِ الْمُطَفِّفِ فَإِنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ، فَدِعَايَةُ الْقَلِيلِ فِيهِ إلَى الْكَثِيرِ أَسْهَلُ وَأَظْهَرُ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْفَرْقَ أَنَّ جَمَاعَةً شَرَطُوا فِي الْغَصْبِ مَا مَرَّ، وَمَعَ ذَلِكَ قَالُوا لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي السَّرِقَةِ وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى مَا ذَكَرْته، وَبِمَا قَرَّرْته مِنْ الْفَرْقِ الظَّاهِرِ بَيْنَ هَذَا وَالْغَصْبِ يَنْدَفِعُ جَزْمُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ التَّطْفِيفَ بِالشَّيْءِ التَّافِهِ صَغِيرَةٌ، إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُنَازَعَةُ فِي الْغَصْبِ إنَّمَا هِيَ فِي التَّحْدِيدِ بِرَفْعِ دِينَارٍ.

وَأَمَّا غَصْبُ الشَّيْءِ التَّافِهِ الَّذِي يُسَامَحُ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً، وَكَذَلِكَ التَّطْفِيفُ بِالشَّيْءِ التَّافِهِ الَّذِي يُسَامَحُ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً أَيْضًا فَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ. وَمِنْ ثَمَّ حَكَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ غَصْبَ الْحَبَّةِ وَسَرِقَتَهَا كَبِيرَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ إطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ، وَيَأْتِي لِذَلِكَ مَزِيدٌ فِي الْغَصْبِ فَرَاجِعْهُ.

قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دَخَلْت عَلَى جَارٍ لِي وَقَدْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَجَعَلَ يَقُولُ جَبَلَيْنِ مِنْ نَارٍ جَبَلَيْنِ مِنْ نَارٍ. قَالَ: قُلْت لَهُ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: يَا أَبَا يَحْيَى

<<  <  ج: ص:  >  >>