للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشَّارِحُ هُنَا ذِكْرَ الْخِلَافِ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي بِمَا فَهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَأَنَّهُ اُخْتُلِفَ هَلْ يَجْتَزِي بِمُجَرَّدِ فَهْمِهِ أَوْ لَا مِنْ تَحْقِيقِ مَا يَسْمَعُ مِنْهُمَا دُونَ احْتِمَالٍ؟ وَكَذَا نَقَلَ الْخِلَافَ فِي الشَّهَادَةِ بِالْفَهْمِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي إعْمَالِ الشَّهَادَةِ بِمَا يَظْهَرُ مَنْ قَصْدِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَإِرَادَتِهِ ثَالِثَهَا، وَيُثْبِتُ الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ بِذَلِكَ اهـ. أَيْ يُبَيِّنُ أَنَّ شَهَادَتَهُ بِالْفَهْمِ لَا بِالتَّصْرِيحِ، ثُمَّ قَالَ الشَّارِحُ مَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالشَّهَادَةِ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ تَدْعُو إلَى الشَّهَادَةِ بِالْفَهْمِ لَا سِيَّمَا الشَّهَادَةَ الاسترعائية، وَالْحُكْمُ لَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى إنْفَاذِ الْحُكْمِ دُونَ تَحْقِيقِ الْفَهْمِ عَلَى الْخَصْمَيْنِ قَالَ وَالشَّهَادَةُ الْأَصْلِيَّةُ مِثْلُهُ، وَانْظُرْ الْبَابَ مِنْ تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونَ

وَشَاهِدُ الْإِعْذَارِ غَيْرُ مُعْمَلِ ... فِي شَأْنِهِ الْإِعْذَارُ لِلتَّسَلْسُلِ

وَلَا الَّذِي وَجَّهَهُ الْقَاضِي إلَى ... مَا كَانَ كَالتَّحْلِيفِ مِنْهُ بَدَلَا

وَلَا الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ قَدْ شَهِدْ ... وَلَا اللَّفِيفُ فِي الْقَسَامَةِ اُعْتُمِدْ

وَلَا الْكَثِيرُ فِيهِمْ الْعُدُولُ ... وَالْخُلْفُ فِي جَمِيعِهَا مَنْقُولُ

عَدَّدَ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ مِنْ الشُّهُودِ الَّذِينَ لَا يُعْذَرُ فِيهِمْ أَيْ لَا يُجَرَّحُونَ خَمْسَةٌ.

(الْأَوَّلُ) الشَّاهِدُ عَلَى الْمَحْكُومِ بِالْإِعْذَارِ أَيْ بِأَنَّهُ لَمْ تَبْقَ لَهُ حُجَّةٌ فَإِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ثُمَّ أَتَى بِحُجَّةٍ تُقْبَلُ لَوْ لَمْ يُعْذِرْ إلَيْهِ، وَأَنْكَرَ الْإِعْذَارَ فَاسْتَظْهَرَ الْمَحْكُومُ لَهُ بِشَهَادَةِ شَاهِدِ الْإِعْذَارِ فَأَرَادَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْإِعْذَارَ فِي الشَّاهِدِ بِتَجْرِيحِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْإِعْذَارِ فَإِذَا أُمْكِنَ مِنْ تَجْرِيحِ شَاهِدِ الْإِعْذَارِ وَجَرَّحَهُ بَطَلَ وَصَارَ كَالْعَدَمِ وَتَعَذَّرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الْإِعْذَارِ، وَالْفَرْضُ أَنَّ تَجْرِيحَ شَاهِدِهِ فَيَتَعَذَّرُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ أَبَدًا وَهَذَا مُرَادُهُ بِالتَّسَلْسُلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَالْإِعْذَارُ الْأَوَّلُ فِي الْبَيْتِ هُوَ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَطْعُ الْحُجَّةِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِتَجْرِيحِ الشُّهُودِ أَوْ حُجَّةِ غَيْرِهِ فَيُقَالُ لِمَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ: شَهِدَ عَلَيْك فُلَانٌ وَفُلَانٌ بَقِيَتْ لَك حُجَّةٌ أَيْ مِنْ غَيْرِ تَجْرِيحِهِمَا أَوْ مُعَارَضَةِ شَهَادَتِهِمَا بِمَا يُبْطِلُهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْإِعْذَارُ الثَّانِي الْمُرَادُ بِهِ التَّجْرِيحُ لَا غَيْرُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِعْذَارَ هُوَ مِنْ حَقِّ الْقَاضِي فَإِذَا كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ حَاضِرًا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي وَقْتَ الْإِعْذَارِ لَمْ يُجَرِّحْ شَاهِدَهُ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِمَا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي لَا يُجَرَّحُ كَمَا يَقُولُهُ النَّاظِمُ:

وَلَا الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ قَدْ شَهِدْ

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا لِكَوْنِهِ مَرِيضًا أَوْ امْرَأَةً لَا تَخْرُجُ فَوَجَّهَ إلَيْهِ الْقَاضِي مَنْ يُعْذِرُ إلَيْهِ فَلَا يُعْذِرُ أَيْضًا فِي الشَّاهِدِ الْمُوَجَّهِ لِذَلِكَ كَمَا يَقُولُهُ أَيْضًا

وَلَا الَّذِي وَجَّهَهُ الْقَاضِي إلَى ... مَا كَانَ كَالتَّحْلِيفِ مِنْهُ بَدَلَا

فَمَسْأَلَةُ النَّاظِمِ الْمُشَارُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (وَشَاهِدُ الْإِعْذَارِ) الْبَيْتِ آيِلَةٌ إلَى إحْدَى هَاتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَقَدْ عَادَتْ الْمَسَائِلُ الْخَمْسُ أَرْبَعًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا بِالْخُصُوصِ؛ لِإِرَادَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ بِالْبَيْتِ الْأَوَّلِ.

(وَغَيْرُ مُعْمَلٍ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَعْمَلَ وَفِي شَأْنِهِ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَالْإِعْذَارُ نَائِبُ فَاعِلِ مُعْمَلٍ. (الثَّانِي) مِنْ الشُّهُودِ الَّذِينَ لَا يُعْذَرُ فِيهِمْ مَنْ وَجَّهَهُ الْقَاضِي نِيَابَةً عَنْهُ لِتَحْلِيفٍ أَوْ حِيَازَةٍ وَنَحْوِهَا. (الثَّالِثُ) الشَّاهِدُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْخَصْمُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي.

(قَالَ فِي طُرُرِ ابْنِ عَاتٍ) قَالَ الْبَاجِيُّ إنَّمَا يُعْذَرُ فِي الَّذِينَ حَضَرُوا الْحِيَازَةَ إذَا لَمْ يُوَجِّهْهُمْ الْقَاضِي لِحُضُورِ الْحِيَازَةِ وَإِنَّمَا تَوَجَّهُوا بِرَغْبَةِ الطَّالِبِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا أَرْسَلَهُمْ الْقَاضِي فَلَا يُبَاحُ الْمَدْفَعُ فِيهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَقَامُ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَجَعَلَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ وَلِمَا ذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ قَالَ: ظَاهِرُهُ وَلَوْ فِيمَا شَهِدَ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَلِابْنِ رُشْدٍ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ دُونَ إعْذَارٍ قَالَهُ ابْنُ الْعَطَّارِ وَفِيهِ اخْتِلَافٌ. (الرَّابِعُ) إذَا شَهِدَ اللَّفِيفُ وَهُمْ جَمَاعَةٌ غَيْرُ عُدُولٍ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ عَلَى أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ هَلْ ذَلِكَ لَوْثٌ تَجِبُ مَعَهُ الْقَسَامَةُ أَوْ لَيْسَ بِلَوْثٍ؟ وَالْمَشْهُورُ لَيْسَ بِلَوْثٍ وَعَلَى كَوْنِهِ لَوْثًا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ

وَلَا اللَّفِيفُ فِي الْقَسَامَةِ اُعْتُمِدَ

فَلَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِمْ عَدَمُ الْعَدَالَةِ وَلَا يُجَرَّحُونَ؛ لِأَنَّ مَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ وَعَدَّهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>