للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَالْأَوْلَى عَدَمُهُ مَا لَمْ يُخَالَفْ بِمَشْرُوعٍ مَأْثُورٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَيَنْبَغِي لِلسَّالِكِ أَنْ يُقَلِّلَ الْأَكْلَ) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «لَا يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاءِ مَنْ مَلَأَ بَطْنَهُ» وَقَالَ «لَا تُمِيتُوا الْقُلُوبَ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ» وَقَالَ «مَا مَلَأ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ حَسْبُ ابْنُ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» وَلِذَا يُقَالُ بِقِلَّتِهِ يَعْرُجُ إلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَبِكَثْرَتِهِ يَنْزِلُ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ (وَيَجْتَنِبَ عَنْ كَثْرَتِهِ وَمُدَاوَمَةِ الشِّبَعِ فَإِنَّ فِي الْأَوَّلِ) أَيْ فِي الْقَلِيلِ (صِحَّةَ الْجِسْمِ) فَإِنَّ سَبَبَ الْأَمْرَاضِ كَثْرَةُ الْأَكْلِ وَالْمَرَضُ يُنْقِصُ الْعَيْشَ وَيَمْنَعُ مِنْ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَيُحْوِجُ إلَى الدَّوَاءِ وَالْأَطِبَّاءِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مُؤَنٍ وَتَبِعَاتٍ وَلَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَالشُّبُهَاتِ (وَجَوْدَةَ الْحِفْظِ) فَإِنَّ الشِّبَعَ يُورِثُ الْبَلَادَةَ بِالْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ إلَى الدِّمَاغِ وَيُعْمِي الْقَلْبَ قِيلَ.

اتَّفَقَ سَبْعُونَ نَبِيًّا عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ كَثْرَةِ الْبَلْغَمِ وَكَثْرَةُ الْبَلْغَمِ مِنْ كَثْرَةِ شُرْبِ الْمَاءِ وَهِيَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ (وَصَفَاءَ الْقَلْبِ) الَّذِي بِهِ يَتَهَيَّأُ لِإِدْرَاكِ لَذَّةِ الْمُنَاجَاةِ وَالتَّأْثِيرِ بِالذِّكْرِ وَكَمْ مِنْ ذِكْرٍ يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ لَا يَتَلَذَّذُ بِهِ وَلَا يَتَأَثَّرُ وَالسَّبَبُ الْأَظْهَرُ فِيهِ خُلُوُّ الْمَعِدَةِ (وَالذَّكَاءَ) لَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَ جَوْدَةِ الْحِفْظِ وَالذَّكَاءِ أَنَّ الْأَوَّلَ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْفَهْمِ الَّتِي يَطَّلِعُ بِهَا عَلَى الْعُلُومِ الْخَفِيَّةِ وَالْأَسْرَارِ اللَّطِيفَةِ وَالثَّانِي بِحَسَبِ قُوَّةِ الْحَافِظَةِ (وَخِفَّةَ الْمُؤْنَةِ) لِأَنَّ مَنْ تَعَوَّدَ قِلَّةَ الْأَكْلِ كَفَاهُ يَسِيرٌ مِنْ الْمَالِ وَمَنْ تَعَوَّدَ الشِّبَعَ يَتَقَاضَاهُ بَطْنُهُ فَيَقُولُ مَاذَا يَأْكُلُ الْيَوْمَ فَيَدْخُلُ الْمَدَاخِلَ مِنْ الشُّبُهَاتِ وَالْحَرَامِ أَوْ يَتْعَبُ فِي الْحَلَالِ وَيَمُدُّ يَدَ الطَّمَعِ إلَى الْخَلْقِ (وَإِمْكَانَ الْقَنَاعَةِ) بِالْقَلِيلِ (وَعَدَمَ نِسْيَانِ بَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ وَتَذَكُّرَ جُوعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِ النَّارِ) لِأَنَّ الْفَطِنَ لَا يُشَاهِدُ بَلَاءً إلَّا وَيَتَذَكَّرُ بَلَاءَ الْآخِرَةِ فَيَتَذَكَّرُ بِعَطَشِهِ عَطَشَ الْخَلْقِ فِي عَرَصَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبِجُوعِهِ جُوعَهُمْ فِي النَّارِ حِينَ يَجُوعُونَ فَيُطْعَمُونَ الزَّقُّومَ وَالضَّرِيعَ وَيُسْقَوْنَ الْغَسَّاقَ وَالْمُهْلَ (وَتَيْسِيرَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ لَا سِيَّمَا الْوُضُوءُ) لِأَنَّ بِالشِّبَعِ تَقْعُدُ الْأَعْضَاءُ عَنْ الْعِبَادَةِ وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْأَكْلِ تَمْنَعُ مِنْ كَثْرَةِ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى زَمَانٍ يَشْتَغِلُ بِالْأَكْلِ وَزَمَانٍ بِشِرَاءِ الطَّعَامِ وَطَبْخِهِ ثُمَّ إلَى غَسْلِ الْيَدِ وَالْخَلَاءِ ثُمَّ كَثْرَةُ التَّرَدُّدِ إلَى بَيْتِ الْمَاءِ لِكَثْرَةِ شُرْبِهِ وَإِلَى الْخَلَاءِ وَغَيْرِهَا وَالْأَوْقَاتُ الْمَصْرُوفَةُ إلَيْهَا لَوْ صَرَفَهَا إلَى الْعِبَادَاتِ لَكَثُرَ رِبْحُهُ (وَتَمَكُّنَ الْإِيثَارِ وَالتَّصَدُّقِ بِمَا فَضَلَ مِنْ الْأَطْعِمَةِ) فَيَكُونُ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ.

وَفِيهِ فَوَائِدُ أُخْرَى كَكَسْرِ شَهَوَاتِ الْمَعَاصِي وَهِيَ أَكْبَرُهَا فَإِنَّ مَنْشَأَ الْمَعَاصِي كُلِّهَا الشَّهَوَاتُ وَيَنْدَفِعُ بِهِ شَهْوَةُ الْكَلَامِ وَآفَاتُهُ مِنْ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالْفُحْشِ وَالنَّمِيمَةِ وَشَهْوَةِ الْفَرْجِ، وَالْجُوعُ يَكْفِي شَرَّهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشَّهَوَاتِ لِلْأَعْضَاءِ الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ وَكَاسْتِيلَاءِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَكَالِانْكِسَارِ وَالذُّلِّ وَزَوَالِ الْبَطَرِ وَالْفَرَحِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الطُّغْيَانِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَكَدَفْعِ النَّوْمِ وَدَوَامِ السَّهَرِ فَإِنَّ مَنْ شَبِعَ شَرِبَ كَثِيرًا وَمَنْ شَرِبَ كَثِيرًا نَامَ كَثِيرًا وَأَجْمَعَ سَبْعُونَ صِدِّيقًا عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ مِنْ كَثْرَةِ الشُّرْبِ وَفِي كَثْرَةِ النَّوْمِ ضَيَاعُ الْعُمْرِ وَفَوْتُ التَّهَجُّدِ وَبَلَادَةُ الطَّبْعِ وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ.

(وَفِي الثَّانِي) أَيْ فِي التَّكْثِيرِ (قَسْوَةُ الْقَلْبِ وَفِتْنَةُ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّهُ إنْ جَاعَ الْبَطْنُ شَبِعَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ وَسَكَنَ) وَلَمْ يَطْلُبْ مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِنْ شَبِعَ) الْبَطْنُ (جَاعَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ وَهَاجَ) تَحَرَّكَ إلَى مَا يَهْوَاهُ (وَ) فِي الثَّانِي أَيْضًا (قِلَّةُ الْفَهْمِ) لَعَلَّ الْحَقَّ مِنْ النُّسَخِ عَلَى هَذَا (وَالْعِلْمُ فَإِنَّ الْبِطْنَةَ تُذْهِبُ الْفَطِنَةَ وَ) فِيهِ (قِلَّةُ الْعِبَادَةِ) لِصَرْفِ الْوَقْتِ فِي شَهْوَةِ النَّفْسِ مِنْ الطَّعَامِ وَتَحْصِيلِهِ وَطَبْخِهِ وَكَسْبِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>