للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَيْ عَلَى غَيْرِ الرِّفْقِ مِنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي عَبْدَهُ عَلَى الرِّفْقِ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الشِّدَّةِ وَالصَّلَابَةِ.

(الْمَقْصِدُ الثَّالِثُ فِي طَرِيقِ تَحْصِيلِ الْحِلْمِ وَهُوَ)

أَيْ الطَّرِيقُ (التَّحَلُّمُ) أَيْ تَكَلُّفُ الْحِلْمِ (أَعْنِي حَمْلَ النَّفْسِ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ) وَإِنْ كَانَ حَمْلُهُ شَاقًّا عَلَيْهَا (مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى بِالتَّكَلُّفِ) بِالْمَشَقَّةِ (حَتَّى يَكُونَ مَلَكَةً وَطَبْعًا) كَالْمَلَكَةِ الطَّبِيعِيَّةِ الْغَرِيزِيَّةِ (مُسَمًّى بِالْحِلْمِ) ؛ لِأَنَّ الْخُلُقَ عِبَارَةٌ عَنْ هَيْئَةٍ فِي النَّفْسِ يَصْدُرُ عَنْهَا الْفِعْلُ بِسُهُولَةٍ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَتَكَلُّفٍ وَلَكِنْ كَوْنُ التَّكَلُّفِ طَرِيقَ تَحْصِيلٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مَجْبُولًا عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ جِدًّا يَشْكُلُ أَنَّ الْحِلْمَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْفِعْلِ حَتَّى يُمْكِنَ تَحْصِيلُهُ وَاكْتِسَابُهُ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْكَيْفِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إذْ الْكَيْفِيَّاتُ النَّفْسَانِيَّةُ طَبِيعَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِحْصَالُهَا بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ.

قَالَ الْمُحَشِّي هَذَا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَجْبُولًا عَلَى الْحِلْمِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ (طب قُطْن) الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» هَذَا لَيْسَ بِحَصْرٍ إضَافِيٍّ أَوْ أَكْثَرِيٍّ كَمَا تُوُهِّمَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُعْتَبَرَ لَيْسَ إلَّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّعَلُّمِ وَتَعَلُّمُهُ طَلَبُهُ مِنْ أَهْلِهِ حَيْثُ كَانُوا فَلَا عِلْمَ إلَّا بِتَعْلِيمِ الشَّارِعِ وَلَوْ بِوَاسِطَةٍ وَمَا تُفِيدُهُ الْعِبَادَةُ وَالتَّقْوَى وَالْمُجَاهَدَةُ وَالرِّيَاضَةُ إنَّمَا هُوَ فَهْمٌ يُوَافِقُ الْأُصُولَ وَيَشْرَحُ الصُّدُورَ وَيُوَسِّعُ الْعُقُولَ ثُمَّ هُوَ يَنْقَسِمُ لِمَا يَدْخُلُ تَحْتَ دَائِرَةِ الْأَحْكَامِ وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ دَائِرَةِ الْعِبَارَةِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْإِشَارَةُ وَمَا لَا تَفْهَمُهُ الضَّمَائِرُ وَإِنْ أَشَارَتْ إلَيْهِ الْحَقَائِقُ فِي وُضُوحِهِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ وَتَحَقُّقِهِ عِنْدَ مُتَلَقِّيهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ تَعَلَّمُوا فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ مَا سَبَقَنَا ابْنِ هِشَامٍ بِالْعِلْمِ إلَّا أَنَّهُ يَشُدُّ ثَوْبَهُ عِنْدَ صَدْرِهِ وَيَسْأَلُ وَكُنَّا تَمْنَعُنَا الْحَدَاثَةُ عَنْهُ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَتَعَلَّمُ مُسْتَحْيٍ وَلَا مُتَكَبِّرٌ وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ بِمَ نِلْت هَذَا الْعِلْمَ قَالَ بِلِسَانٍ سَئُولٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ كَذَا فِي الْفَيْضِ «وَ» إنَّمَا «الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ» أَيْ بِبَسْطِ النَّفْسِ وَتَنْشِيطِهَا لَهُ قَالَ الرَّاغِبُ الْحِلْمُ إمْسَاكُ النَّفْسِ عَنْ هَيَجَانِ الْغَضَبِ وَالتَّحَلُّمُ إمْسَاكُهَا عَنْ قَضَاءِ الْوَطَرِ إذَا هَاجَ الْغَضَبُ «وَمَنْ تَحَرَّى الْخَيْرَ» أَيْ طَلَبَهُ وَقَصَدَهُ أَوْ مَنْ يَجْتَهِدُ فِي تَحْصِيلِ الْخَيْرِ «يُعْطَهُ» أَيْ يُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ «وَمَنْ يَتَّقِ» وَفِي رِوَايَةٍ يَتَوَقَّ «الشَّرَّ» مِثْلَ الْجَهْلِ وَالْغَضَبِ «يُوقَهُ» ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ بِيَدِهِ وَلَا مَانِعَ لِمَا يُعْطِيهِ.

(تَنْبِيهٌ)

قَالَ بَعْضُهُمْ وَيُحَصَّلُ الْعِلْمُ بِالْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ لَكِنَّهُ نَادِرٌ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فَلِذَا تَمَّمَ الْكَلَامَ نَحْوَ الْغَالِبِ.

قَالَ الرَّاغِبُ الْفَضَائِلُ ضَرْبَانِ نَظَرِيٌّ وَعَمَلِيٌّ وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ بِتَعَلُّمِ بَشَرِيٍّ يَحْتَاجُ إلَى زَمَانٍ وَتَدَرُّبٍ وَمُمَارَسَةٍ وَيَتَقَوَّى الْإِنْسَانُ فِيهِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَكْفِي فِيهِ أَدْنَى مُمَارَسَةٍ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الطَّبَائِعِ فِي الذَّكَاءِ وَالْبَلَادَةِ وَالثَّانِي بِفَيْضٍ إلَهِيٍّ نَحْوُ أَنْ يُولَدَ إنْسَانٌ عَالِمًا بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ كَعِيسَى وَيَحْيَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَقَدْ يَكُونُ بِالطَّبْعِ كَصَبِيٍّ صَادِقِ اللَّهْجَةِ وَالسَّخَاءِ وَآخَرَ بِعَكْسِهِ وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّعَلُّمِ وَالْعَادَةِ فَمَنْ صَارَ فَاضِلًا طَبْعًا وَعَادَةً وَتَعَلُّمًا فَهُوَ كَامِلُ الْفَضِيلَةِ وَمَنْ كَانَ رَاذِلًا فَهُوَ كَامِلُ الرَّذِيلَةِ (وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) تَعَالَى قِيلَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ (إنِّي حَصَّلْت الْحِلْمَ) حَتَّى صِرْت حَلِيمًا (بِمُسَاكَنَةِ مُتَهَوِّرٍ) فِي الْأَفْعَالِ

<<  <  ج: ص:  >  >>