للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَبْعَدَهُمْ، أَوْ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ لَيْسَ كَمَعْرِفَتِهِ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ؛ أَوْ لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا مِنْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ غَيْرَ مَعْنَاهَا الْمَعْلُومِ لَهُمْ كَمَا يُشْعِرُهُ الْجَوَابُ «قَالَ الْجَوَّادُ مَنْ جَادَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى» كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَالْأُضْحِيَّةِ بَلْ مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ «فِي مَالِهِ، وَالْبَخِيلُ مَنْ مَنَعَ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَخِلَ عَلَى رَبِّهِ، وَلَيْسَ الْجَوَّادُ مَنْ أَخَذَ حَرَامًا» كَالْغَصْبِ «، وَأَنْفَقَ إسْرَافًا» قِيلَ عَلَى رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «تَجَاوَزُوا عَنْ ذَنْبِ السَّخِيِّ فَإِنَّ اللَّهَ آخِذٌ بِيَدِهِ كُلَّمَا عَثَرَ» أَقُولُ كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ، وَفِيهِ بَيَانُ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلسَّخِيِّ وَمَعُونَتِهِ لَهُ فِي مُهِمَّاتِهِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي مَحَبَّتِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فَلَمَّا سَخَا بِالْأَشْيَاءِ اعْتِمَادًا وَتَوَكُّلًا عَلَى رَبِّهِ شَمِلَهُ بِعَيْنِ عِنَايَتِهِ وَكُلَّمَا، وَقَعَ فِي مَهْلَكَةٍ أَنْقَذَهُ مِنْهَا وَمَعْنَى أَخِذٌ بِيَدِهِ خَلَّصَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ خُذْ بِيَدِي خَلِّصْنِي مِمَّا وَقَعْت فِيهِ، وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «تَجَاوَزُوا عَنْ ذَنْبِ السَّخِيِّ» أَيْ تَسَاهَلُوا وَخَفِّفُوا فِيهِ «وَزَلَّةِ الْعَالِمِ وَسَطْوَةِ السُّلْطَانِ الْعَادِلِ فِي أَحْكَامِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى آخِذٌ بِيَدِهِمْ كُلَّمَا عَثَرَ عَاثِرٌ مِنْهُمْ» لِمَا أَنَّهُمْ مَشْمُولُونَ بِعِنَايَتِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْمَوْضُوعَاتِ قِيلَ هُوَ وَهْمٌ، وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «الرِّزْقُ إلَى بَيْتٍ فِيهِ السَّخَاءُ أَسْرَعُ مِنْ الشَّفْرَةِ إلَى سَنَامِ الْبَعِيرِ» قَالَ فِي شَرْحِهِ مَقْصُودُ الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى السَّخَاءِ سِيَّمَا عَلَى الْعِيَالِ الَّذِينَ أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى رِزْقَهُمْ عَلَى يَدِهِ وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهِمْ سَبَبٌ لِجَلْبِ الرِّزْقِ {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: ٣٩] وَمَنْ وَسَّعَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَنْ قَتَّرَ قَتَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَفِي ضِمْنِهِ تَحْذِيرٌ عَظِيمٌ مِنْ الْبُخْلِ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِحِرْمَانِ بَعْضِ الرِّزْقِ، وَفِي الْإِحْيَاءِ السَّخَاءُ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمِنْ أُصُولِ النَّجَاةِ.

وَعَنْهُ عَبَّرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ «السَّخَاءُ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ أَغْصَانُهَا مُتَدَلِّيَةٌ إلَى الْأَرْضِ فَمَنْ أَخَذَ مِنْهَا غُصْنًا قَادَهُ إلَى الْجَنَّةِ» ، وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُلُقَانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَخُلُقَانِ يُبْغِضُهُمَا اللَّهُ فَأَمَّا اللَّذَانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ فَحُسْنُ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءُ، وَأَمَّا اللَّذَانِ يُبْغِضُهُمَا فَسُوءُ الْخُلُقِ وَالْبُخْلُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ» وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ دُرَّةَ وَكَانَتْ تَخْدُمُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَتْ إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَعَثَ إلَيْهَا بِمَالٍ فِي غَزْوَتَيْنِ ثَمَانِينَ أَلْفًا وَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَسَمَتْهَا فَلَمَّا أَمْسَتْ أَفْطَرَتْ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَقَالَتْ لَهُمْ أُمُّ دُرَّةَ مَا اشْتَرَيْت لَنَا بِدِرْهَمٍ لَحْمًا نُفْطِرُ عَلَيْهِ فَقَالَتْ لَوْ كُنْت ذَكَّرْتنِي لَفَعَلْت.

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ خَرَجَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - حُجَّاجًا فَمَرُّوا بِعَجُوزٍ فَسَأَلُوا الشَّرَابَ فَقَالَتْ نَعَمْ وَالطَّعَامَ قَالَتْ لَا إلَّا هَذِهِ الشَّاةُ فَذَبَحَتْ لَهُمْ فَأَكَلُوا وَارْتَحَلُوا ثُمَّ جَاءَ زَوْجُهَا فَغَضِبَ فَقَالَ وَيْلَكِ تَذْبَحِينَ شَاتِي لِقَوْمٍ لَا تَعْرِفِينَهُمْ ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ دَخَلَتْ الْعَجُوزُ الْمَدِينَةَ لِحَاجَةٍ فَمَرَّتْ الْعَجُوزُ فِي بَعْضِ سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَرَآهَا الْحَسَنُ فَعَرَفَهَا، وَهِيَ لَهُ مُنْكِرَةٌ فَبَعَثَ إلَيْهَا غُلَامُهُ وَدَعَاهَا فَقَالَتْ لَا أَعْرِفُك قَالَ أَنَا ضَيْفُك يَوْمَ كَذَا فَأَمَرَ لَهَا بِأَلْفِ شَاةٍ، وَأَلْفِ دِرْهَمٍ وَبَعَثَ بِهَا مَعَ غُلَامٍ إلَى الْحُسَيْنِ فَقَالَ بِكَمْ وَصَلَك أَخِي قَالَتْ بِأَلْفِ شَاةٍ، وَأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَمَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ لَهَا ثُمَّ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَاسْتَخْبَرَ عَطِيَّتَهُمَا فَأَعْطَاهَا مِثْلَ مَجْمُوعِ عَطِيَّتِهِمَا فَرَجَعَتْ إلَى زَوْجِهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ شَاةٍ، وَأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَدَّثَنَا أَبِي أَنَّهُ رَفَعَ رُقْعَةً إلَى الْمَأْمُونِ يَذْكُرُ فِيهَا كَثْرَةَ دَيْنِهِ، وَقِلَّةَ صَبْرِهِ فَكَتَبَ الْمَأْمُونُ عَلَى ظَهْرِ رُقْعَتِهِ إنَّك رَجُلٌ اجْتَمَعَ فِيك خَصْلَتَانِ سَخَاءٌ وَحَيَاءٌ أَمَّا السَّخَاءُ فَهُوَ الَّذِي أَطْلَقَ مَا فِي يَدَيْك، وَأَمَّا الْحَيَاءُ فَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُك مِنْ تَبْلِيغِنَا مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَمَرْت لَك بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ أَنْفَذَ هَارُونُ الرَّشِيدُ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ إلَى اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَبَعَثَ لَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَغَضِبَ هَارُونُ، وَقَالَ أَعْطَيْته خَمْسَمِائَةٍ وَتُعْطِيهِ أَلْفًا، وَأَنْتَ مِنْ رَعِيَّتِي فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ غَلَّتِي كُلَّ يَوْمٍ أَلْفُ دِينَارٍ وَاسْتَحْيَيْت أَنْ أُعْطِيَ أَقَلَّ مِنْ غَلَّةِ يَوْمٍ.

وَحُكِيَ أَنَّهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ قَطُّ مَعَ أَنَّ دَخْلَهُ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفُ دِينَارٍ، وَحُكِيَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى يَتَصَدَّقَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ وَسِتِّينَ مِسْكِينًا، وَقَالَ

<<  <  ج: ص:  >  >>