للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وَأَفْضَلُ الصَّبْرِ مَا عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى) أَيْ عِنْدَ فَوْرَةِ الْمُصِيبَةِ وَابْتِدَائِهَا قَبْلَ أَنْ يَحْصُلَ التَّسَلِّي بِشَيْءٍ مِنْ التَّسَلِّيَاتِ لِكَثْرَةِ الْمَشَقَّةِ حِينَئِذٍ، وَأَصْلُ الصَّدْمِ الضَّرْبُ فِي شَيْءٍ صُلْبٍ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي كُلِّ مَكْرُوهٍ وَوَقَعَ بَغْتَةً وَمَعْنَاهُ أَنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ قُوَّةِ الْمُصِيبَةِ أَشَدُّ فَالثَّوَابُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ فَإِنَّ بِطُولِ الْأَيَّامِ يَتَسَلَّى الْمُصَابُ فَيَصِيرُ الصَّبْرُ طَبْعًا، وَقَدْ بَشَّرَ اللَّهُ تَعَالَى - الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةً قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ -.

وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ قِيلَ حُبِسَ الشِّبْلِيُّ وَقْتًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَقَالَ مَنْ أَنْتُمْ قَالُوا أَحِبَّاؤُك جَاءُوك زَائِرِينَ فَأَخَذَ يَرْمِيهِمْ بِالْحِجَارَةِ، وَأَخَذُوا يَهْرُبُونَ فَقَالَ يَا كَذَّابُونَ لَوْ كُنْتُمْ أَحِبَّائِي لَصَبَرْتُمْ عَلَى بَلَائِي.

وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْقُدْسِيَّةِ «مَنْ يَتَحَمَّلُ مَا يَتَحَمَّلُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَجْلِي» ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: ٤٨] ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كُنْت بِمَكَّةَ فَرَأَيْت فَقِيرًا طَافَ بِالْبَيْتِ، وَأَخْرَجَ مِنْ جَيْبِهِ رُقْعَةً وَنَظَرَ فِيهَا وَمَرَّ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فَتَرَقَّبْته أَيَّامًا وَهُوَ يَفْعَلُ مِثْلَهُ فَيَوْمًا مِنْ الْأَيَّامِ طَافَ وَنَظَرَ فِي الرُّقْعَةِ وَتَبَاعَدَ قَلِيلًا وَسَقَطَ مَيِّتًا فَأَخْرَجْنَا الرُّقْعَةَ مِنْ جَيْبِهِ فَإِذَا فِيهَا - {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: ٤٨] ؛ وَلِمِثْلِ ذَلِكَ الْفَضْلِ كُلِّهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْمُصِيبَةُ وَاحِدَةٌ فَإِذَا جَزَعَ صَاحِبُهَا تَكُونُ ثِنْتَيْنِ إحْدَاهُمَا الْمُصِيبَةُ وَثَانِيَتُهُمَا ذَهَابُ أَجْرِ الْمُصِيبَةِ بَلْ الْمُصِيبَةُ هِيَ هَذَا لَا نَفْسُ الْمُصِيبَةِ.

(خ م عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّبْرُ» أَيْ الْكَامِلُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ الْجَزِيلُ «عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» إذْ بَعْدَ ذَلِكَ يَهُونُ الْأَمْرُ وَتَنْكَسِرُ حِدَةُ الْمُصِيبَةِ فَإِنَّ مُفَاجَأَةَ الْمُصِيبَةِ بَغْتَةً بِهَا رَوْعَةٌ تُزْعِجُ الْقَلْبَ (وَالصَّبْرُ أَصْلُ كُلِّ عِبَادَةٍ) قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ فَإِنَّ مَبْنَى أَمْرِ الْعِبَادَةِ كُلِّهِ عَلَى الصَّبْرِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى فَمَنْ لَمْ يَكُنْ صَبُورًا لَمْ يَصِلْ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِالْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَصَدَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَجَرَّدَ لَهَا اسْتَقْبَلَتْهُ الشَّدَائِدُ وَالْمَصَائِبُ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا لَا عِبَادَةَ إلَّا بِقَمْعِ الْهَوَى، وَقَهْرِ النَّفْسِ، وَلَا أَشَدَّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ ذَلِكَ وَثَانِيهَا حِفْظُ عَمَلِهِ عَمَّا يُفْسِدُهُ وَاتِّقَاءُ الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَلِ وَثَالِثُهَا مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْمِحْنَةِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْمُصِيبَةِ نَفْسًا، وَأَوْلَادًا أَوْ أَقْرِبَاءَ، وَعِرْضًا وَغَيْرَهَا فَكُلُّهَا تُوجِبُ الصَّبْرَ، وَإِلَّا فَالْجَزَعُ يَمْنَعُ الْعِبَادَةَ وَرَابِعُهَا كُلَّمَا ازْدَادَ الْقُرْبَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَصَائِبُ لَهُ أَكْثَرُ وَالْبَلَاءُ عَلَيْهِ أَشَدُّ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» فَإِذَنْ مَنْ تَجَرَّدَ لِلْعِبَادَةِ تَكْثُرُ عَلَيْهِ الْمِحَنُ ثُمَّ قَالَ فِي الصَّبْرِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: أَوَّلُهَا كَالنَّجَاةِ وَالنَّجَاحِ - {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: ٢]- الْآيَةَ أَيْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بِالصَّبْرِ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ الشَّدَائِدِ.

وَثَانِيهَا: وَكَالظَّفَرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: ٤٩] .

وَثَالِثُهَا: وَكَالظَّفَرِ بِالْمُرَادِ {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: ١٣٧] .

وَرَابِعُهَا: وَكَالتَّقَدُّمِ عَلَى النَّاسِ وَالْإِمَامَةِ - {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: ٢٤]-.

وَخَامِسُهَا: وَكَالثَّنَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: ٤٤] .

وَسَادِسُهَا: وَكَالْبِشَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالرَّحْمَةِ {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: ١٥٥] إلَى قَوْله تَعَالَى {هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: ١٥٧] .

وَسَابِعُهَا: وَكَمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: ١٤٦] .

وَثَامِنُهَا: وَكَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الْجَنَّةِ - {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: ٧٥] .

وَتَاسِعُهَا: وَكَالتَّكْرِمَةِ الْعَظِيمَةِ - {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: ٢٤] .

وَعَاشِرُهَا: وَكَالثَّوَابِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِي - {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: ١٠]- فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى صَبْرِ سَاعَةٍ؛ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ» ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمِيعُ خَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي صَبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>