للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالِاكْتِوَاءِ وَمُعَاطَاةِ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ (فَلَا مُنَافَاةَ) بَيْنَ الْأَحَادِيثِ أَوْ نَقُولُ الْأَوَّلَانِ لِلْخَوَاصِّ وَالْأَخِيرُ لِلْعَوَامِّ إذْ حَالُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْخَوَاصِّ غَيْرُ حَالِهِ بِالْعَوَامِّ؛ وَلِهَذَا تَرَى حَالَ الصَّالِحِينَ أَكْثَرَ فِي التَّفْوِيضِ.

قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ إنَّهُ كَانَ فِي الْبَادِيَةِ فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِأَنَّك مُتَجَرِّدٌ، وَهَذِهِ بَادِيَةٌ لَا عُمْرَانَ فِيهَا، وَلَا نَاسَ فَعَزَمَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى تَجَرُّدِهِ، وَأَنْ يَتْرُكَ الطَّرِيقَ حَتَّى لَا يُقْعِدَهَا بِأَحَدٍ، وَلَا يَأْكُلَ شَيْئًا حَتَّى يُجْعَلَ فِي فِيهِ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ ثُمَّ عَدَلَ عَنْ الشَّارِعِ وَمَرَّ عَلَى وَجْهِهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَسِرْت مَا شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا بِقَافِلَةٍ قَدْ ضَلَّتْ الطَّرِيقَ فَلَمَّا أَبْصَرْتهمْ رَمَيْت بِنَفْسِي إلَى الْأَرْضِ لَعَلَّهُمْ لَا يُبْصِرُونَنِي فَسَيَّرَهُمْ اللَّهُ حَتَّى وَقَفُوا عَلَيَّ فَغَمَّضْت عَيْنِي فَدَنَوْا مِنِّي، وَقَالُوا هَذَا مُنْقَطِعٌ قَدْ غُشِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ فَهَاتُوا سَمْنًا وَعَسَلًا نَجْعَلُهُ فِي فِيهِ لَعَلَّهُ يُفِيقُ فَأَتَوْا بِعَسَلٍ وَسَمْنٍ فَسَدَدْت فَمِي وَأَسْنَانِي فَأَتَوْا بِسِكِّينٍ فَعَالَجُوا فَمِي حَتَّى فَتَحُوا فَضَحِكْت، وَفَتَحْتُ فَايَ فَقَالُوا أَنْتَ مَجْنُونٌ فَأَخْبَرْتهمْ الْقِصَّةَ، وَفِي الْمِنْهَاجِ أَيْضًا، وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا كُنْت مُتَجَرِّدًا فِي مَسْجِدٍ فَوَسْوَسَ إلَيَّ الشَّيْطَانُ بِأَنَّ هَذَا مَسْجِدٌ بَعِيدٌ مِنْ النَّاسِ، وَلَوْ صِرْت إلَى مَسْجِدٍ بَيْنَ النَّاسِ لَزَارَك أَهْلُهُ، وَقَامُوا بِكِفَايَتِك فَعَهِدْت عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا آكُلَ شَيْئًا إلَّا الْحَلْوَى، وَلَا آكُلَهُ حَتَّى يُوضَعَ فِي فِي لُقْمَةً لُقْمَةً وَصَلَّيْت، وَأَغْلَقْت الْبَابَ فَلَمَّا مَضَى صَدْرٌ مِنْ اللَّيْلِ إذَا أَنَا بِإِنْسَانٍ يَدُقُّ الْبَابَ وَمَعَهُ سِرَاجٌ فَلَمَّا أَكْثَرَ الدَّقَّ فَتَحْت الْبَابَ فَإِذَا بِعَجُوزٍ قَدْ دَخَلَتْ فَوَضَعَتْ بَيْنَ يَدَيْ طَبَقًا مِنْ الْخَبِيصِ، وَقَالَتْ هَذَا الشَّابُّ، وَلَدِي صَنَعْت لَهُ هَذَا الْخَبِيصَ وَجَرَى مِنِّي كَلَامٌ فَحَلَفْت أَنْ لَا يَأْكُلَ حَتَّى يَأْكُلَ مَعَهُ رَجُلٌ غَرِيبٌ فَكُلْ رَحِمَك اللَّهُ فَأَخَذَتْ تَضَعُ فِي فَمِي لُقْمَةً، وَفِي فَمِ وَلَدِهَا لُقْمَةً.

فَفِي أَمْثَالِهِمَا فَوَائِدُ أَنَّ الرِّزْقَ لَا يَفُوتُ مَنْ قُدِّرَ لَهُ وَالتَّوَكُّلَ أَمْرٌ مُهِمٌّ لَازِمٌ وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ غَوَائِلُ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْ غَائِلَتِهِ الْمُنْتَهِي فَضْلًا عَنْ الْمُبْتَدِئِ (فَظَهَرَ أَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ) الْعَادِيَةِ (الْمَظْنُونَةِ الْوُصُولِ إلَى الْمُسَبِّبَاتِ لَا تَنَافِي التَّوَكُّلَ) بِشَرْطِ عَدَمِ اعْتِقَادِ التَّأْثِيرِ لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ لِاخْتِلَافِ دَاعِيهِمَا وَمَحَلِّهِمَا إذْ دَاعِي الْأَوَّلِ الْيَقِينُ وَمَحَلُّهُ الْبَاطِنُ وَدَاعِي الثَّانِي عَدَمُ الْيَقِينِ وَمَحَلُّهُ الظَّاهِرُ (أَصْلًا) لَا فِي أَصْلِهِ، وَلَا فِي كَمَالِهِ لَعَلَّ فِي الْأَخِيرِ نَوْعُ خَفَاءٍ يُعْرَفُ بِالرُّجُوعِ إلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ آنِفًا (فَلِذَا فُرِضَ الْكَسْبُ) لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» كَمَا أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ كَمَا فِي التتارخانية (لِلْمُحْتَاجِ) ، وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا حَاصِلُهُ هُوَ فَرْضٌ عَلَى قَدْرِ مَا يَقُومُ بِهِ صَلْبُ نَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ مُبَاحٌ إذَا لَمْ يُرِدْ الْفَخْرَ ثُمَّ كُلُّ الْكَسْبِ مُبَاحٌ خِلَافًا لِمَنْ جَعَلَ الزِّرَاعَةَ مَذْمُومَةً وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ التِّجَارَةِ، وَأَمَّا الِاكْتِسَابُ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ فَإِنْ تَعَيَّنَ لَيْسَ لَهُ أَجْرٌ خِلَافًا لِحَفْرِ الْقَبْرِ وَحَمْلِ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا أَجْرُ ضَرْبِ الطَّبْلِ فَإِنْ لِلْغُزَاةِ وَالْقَافِلَةِ جَازَ، وَإِنْ لِلَّهْوِ لَا وَضَابِطُهُ كُلُّ مَا أُخِذَ بِمُقَابَلَةِ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ فَيَجِبُ الرَّدُّ أَوْ التَّصَدُّقُ إنْ لَمْ يُعْرَفْ وَمَا تَأْخُذُهُ النَّائِحَةُ وَالْمُغَنِّي وَنَحْوُهُمَا بِالرِّضَا وَبِلَا عَقْدٍ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَمَا جُمِعَ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ وَمِنْ الْغَرَامَاتِ فَلَا يُؤْكَلُ دِيَانَةً وَيَسَعُ حُكْمًا إنْ لَمْ يَكُنْ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ وَالرِّشْوَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(وَلَوْ سُؤَالًا) ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْمَكَاسِبِ حَتَّى لَوْ مَاتَ وَلَمْ يَسْأَلْ يَأْثَمُ وَمَا فِي التتارخانية عَنْ الْيَنَابِيعِ وَمَا جَمَعَ السَّائِلُ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ خَبِيثٌ فَعِنْدَ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ (وَ) وَجَبَ (الْأَكْلُ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ) فَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ الْأَكْلِ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ التَّدَاوِي (وَأُمِرَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ) مِنْ الْعَدُوِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى «خُذُوا حِذْرَكُمْ» (وَالسِّلَاحِ) «خُذُوا أَسْلِحَتَكُمْ» ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ وَتَحَصَّنَ مِنْ الْعَدُوِّ فِي الْخَنْدَقِ لِعَدَمِ تَنَافِيهِ التَّوَكُّلَ لِكَوْنِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَظْنُونَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>