للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَتَى يَوْمًا، وَقَدْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَنَحَلَ جِسْمُهُ فَسُئِلَ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ مَا بِي مِنْ وَجَعٍ غَيْرَ أَنِّي إذَا لَمْ أَرَك اشْتَقْتُ إلَيْك وَاسْتَوْحَشْتُ وَحْشَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَلْقَاك ثُمَّ ذَكَرْتُ الْآخِرَةَ فَخِفْتُ أَنْ لَا أَرَاك هُنَاكَ؛ لِأَنِّي عَرَفْتُ أَنَّك مَعَ النَّبِيِّينَ، وَأَنِّي إنْ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ كُنْتُ فِي مَنْزِلٍ دُونَ مَنْزِلِك، وَإِنْ لَمْ أَدْخُلْ لَا أَرَاك أَبَدًا فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى - {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: ٦٩] » .

وَفِي الشِّرْعَةِ وَمِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُوَاخِيَ مُوَاخَاةً إلَّا مَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ وَصَلَاحِهِ وَتَقْوَاهُ فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْهُ بِعَمَلِهِ، وَفِي شَرْحِهِ قَالَ الْحَسَنُ لَا يَغُرُّنَّكُمْ هَذَا الْحَدِيثُ فَإِنَّك لَنْ تَلْحَقَ الْأَبْرَارَ إلَّا بِأَعْمَالِهِمْ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُحِبُّونَ أَنْبِيَاءَهُمْ، وَلَيْسُوا مَعَهُمْ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مُجَرَّدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُوَافَقَةٍ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ أَوْ كُلِّهَا لَا يَنْفَعُ ثُمَّ قَالَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ الْوَلِيَّ بِحُرْمَةِ وَلِيِّهِ وَيُلْحِقُهُ بِهِ وَلَا يُنْقِصُ مِنْ عَمَلِ وَلِيِّهِ شَيْئًا كَمَا يُلْحِقُ الذُّرِّيَّةَ فِي قَوْله تَعَالَى - {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: ٢١]- قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ طَبْعًا، وَعَقْلًا وَجَزَاءً وَمَحَلًّا فَكُلُّ مُهْتَمٍّ بِشَيْءٍ فَهُوَ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ، وَإِلَى أَهْلِهِ بِطَبْعِهِ، وَكُلُّ امْرِئٍ يَمِيلُ إلَى مُنَاسِبِهِ سَاءَ أَمْ سَخِطَ فَالرُّوحُ الْعَلَوِيَّةُ تَنْجَذِبُ إلَى الْأَعْلَى وَالنُّفُوسُ الدَّنِيَّةُ تَنْجَذِبُ إلَى الْأَسْفَلِ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ هَلْ هُوَ مَعَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى أَوْ الْأَسْفَلِ فَلْيَنْظُرْ مَنْ صَحِبَهُ فَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ فَهُوَ مَعَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنْ تَكَلَّمَ فَبِاَللَّهِ، وَإِنْ نَطَقَ فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ تَحَرَّكَ فَبِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِنْ سَكَتَ فَمَعَ اللَّهِ فَهُوَ بِاَللَّهِ؛ وَلِلَّهِ وَمَعَ اللَّهِ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِتَوْحِيدِ الْمَحْبُوبِ، وَأَنَّ مَنْ ادَّعَى مَحَبَّتَهُ ثُمَّ لَمْ يَحْفَظْ حُدُودَهُ فَلَيْسَ بِصَادِقٍ، وَقِيلَ الْمُرَادُ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُمْ لِثُبُوتِ التَّقَرُّبِ مَعَ قُلُوبِهِمْ.

قَالَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ فَرَحِهِمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي ضِمْنِهِ حَثٌّ عَلَى حُبِّ الْأَخْيَارِ رَجَاءَ الْإِلْحَاقِ بِهِمْ فِي دَارِ الْقَرَارِ وَالْخَلَاصِ مِنْ النَّارِ وَالْقُرْبِ مِنْ الْجَبَّارِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالتَّنْفِيرِ مِنْ التَّبَاغُضِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ رَمْزٌ إلَى أَنَّ التَّحَابُبَ بَيْنَ الْكُفَّارِ يُنْتِجُ لَهُمْ الْمَعِيَّةَ فِي النَّارِ بِئْسَ الْقَرَارُ - {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: ٣٠]-.

(فَائِدَةٌ) : قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ قُلْت لِشَيْخِنَا يَا سَيِّدِي إذَا ارْتَقَى الْوَلِيُّ إلَى مَرْتَبَةِ الْقُطْبِيَّةِ مَثَلًا هَلْ يَرْقَى بَعْضُ جَمَاعَتِهِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي أَبْنَاءِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ فَتَبَسَّمَ وَحَسَّنَ رَجَائِي، وَقَالَ مَا لَا يُحَالُ كَشْفُهُ، وَفِي أَثْنَائِهِ هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ قَالَ الْعَلَائِيُّ الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ وَمُتَوَاتِرٌ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ، وَعَدَّهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْكُلُّ عُصَارَةُ الْفَيْضِ ثُمَّ يُقِرُّ بِهِ قَوْله تَعَالَى - {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: ٢١]-، وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ اصْحَبُوا مَعَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تُطِيقُوا فَاصْحَبُوا مَعَ مَنْ يَصْحَبُ مَعَ اللَّهِ لِتُوصِلَكُمْ بَرَكَاتُ صُحْبَتِهِمْ إلَى اللَّهِ، وَفِيهَا صُحْبَةُ الْأَشْرَارِ تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بِالْأَخْيَارِ، وَفِيهَا اصْطَحَبَ رَجُلَانِ مُدَّةً ثُمَّ بَدَا لِأَحَدِهِمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>