للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلَّا مَتَاعَ الْغُرُورِ وَإِيثَارَ مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى لِأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى بَلْ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مِثْلُهُ مِلْكًا لِمَالِكِهِ إذْ يَدُهُ يَدُ عَارِيَّةٍ وَأَمَانَةٍ وَقَدْ يُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ فِي حَيَاتِهِ وَعِنْدَ مَمَاتِهِ بَلْ مَا أَكَلَهُ أَيْضًا لَيْسَ مِلْكَهُ لِفَنَائِهِ وَمَا لَبِسَهُ لَيْسَ مِلْكَهُ لِبَلَاهُ وَإِنَّمَا مِلْكُهُ مَا تَصَدَّقَ بِهِ وَقِيلَ مَا هَمَّ، فَلَيْسَ فِي كَثِيرِهِ إلَّا إمَاتَةُ الْقَلْبِ وَصَرْفُهُ عَنْ طَاعَتِهِ تَعَالَى

(بَلْ اللَّائِقُ) وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا (لِسَالِكِ الْآخِرَةِ) مُرِيدِ ثَوَابِهَا وَخَلَاصِ عِقَابِهَا بَلْ رِفْعَةِ دَرَجَاتِهَا (الْأُنْسُ بِذِكْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الطَّاعَاتِ بِالْإِطْلَاقِ وَأَقْرَبُ الْقُرُبَاتِ بِالِاتِّفَاقِ وَبِهِ وَصَلَ الْوَاصِلُونَ وَبِتَرْكِهِ سَقَطَ السَّاقِطُونَ إذْ شَرَفُ الذِّكْرِ عَلَى قَدْرِ شَرَفِ مَذْكُورِهِ لَكِنْ الظَّاهِرُ هُنَا عُمُومُ الْمَجَازِ بِمَعْنَى مُطْلَقِ ذِكْرٍ مِنْ أَيِّ عِبَادَةٍ قَوْلِيَّةٍ أَوْ بَدَنِيَّةٍ أَوْ مَالِيَّةٍ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ (وَطَاعَتُهُ) يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ إذْ الْمُتَبَادَرُ هُوَ عَطْفُ الْعَامِ عَلَى الْخَاصِّ لَا نَحْوُ عَطْفِ التَّفْسِيرِ وَفِي النَّصَائِحِ الْوَلَدِيَّةِ لِحُجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ الشَّلَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَدَمَ أَرْبَعَمِائَةِ أُسْتَاذٍ وَقَالَ قَرَأْت أَرْبَعَةَ آلَافِ حَدِيثٍ ثُمَّ اخْتَرْت مِنْهَا حَدِيثًا وَاحِدًا عَمِلْت بِهِ وَخَلَّيْت مَا سِوَاهُ لِأَنَّى تَأَمَّلْت فَوَجَدْت خَلَاصِي وَنَجَاتِي فِيهِ وَكَانَ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِيهِ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ «اعْمَلْ لِدُنْيَاك بِقَدْرِ مَقَامِك فِيهَا وَاعْمَلْ لِآخِرَتِك بِقَدْرِ بَقَائِك فِيهَا وَاعْمَلْ لِلَّهِ بِقَدْرِ حَاجَتِك إلَيْهِ وَاعْمَلْ لِلنَّارِ بِقَدْرِ صَبْرِك عَلَيْهَا» فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَجْعَلَ الذِّكْرَ وَالطَّاعَةَ كَالْغِذَاءِ لَهُ وَذَا إنَّمَا يَتَحَصَّلُ بِتَطْهِيرِ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَتَنْوِيرِهِ بِذِكْرِهِ إلَى أَنْ يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَحِفْظِ الْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُ بِصَرْفِ كُلٍّ إلَى مَا خُلِقَ لَهُ فَإِنَّ امْرَأً لَوْ ذَهَبَ سَاعَةً مِنْ عُمْرِهِ إلَى غَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ لَجَدِيرٌ أَنْ تَطُولَ حَسْرَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي الْحَدِيثِ «لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا»

قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي شَرْحِهِ الْحِصْنُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّ الدُّنْيَا سَاعَةٌ فَاجْعَلْهَا طَاعَةً كَيْ لَا تُحَصِّلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَدَامَةً وَعَنْ شَرْحِ الصُّدُورِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِكُلِّ إنْسَانٍ ثَلَاثَةُ أَخِلَّاءٍ أَمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ مَا أَنْفَقْتَ فَلَكَ وَمَا أَمْسَكْتَ فَلَيْسَ لَك فَذَلِكَ مَالُهُ وَأَمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ أَنَا مَعَك فَإِذَا أَتَيْت بَابَ الْمَلِكِ تَرَكْتُك وَرَجَعْتُ فَذَاكَ أَهْلُهُ وَحَشَمُهُ وَأَمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ أَنَا مَعَك حَيْثُ دَخَلْت وَحَيْثُ خَرَجْت فَذَاكَ عَمَلُهُ» (وَالْوَحْشَةُ وَالضَّجَرُ عِنْدَ مُلَاقَاتِ الْعَوَامّ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَحَّشُ مِنْ الْخَوَاصِّ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّاسِ هُنَا هُمْ الْعَوَامُّ فَإِنَّ مُرِيدَ الْآخِرَةِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمْ بَلْ لِصُحْبَتِهِمْ وَزِيَارَتِهِمْ مَنَافِعُ دِينِيَّةٌ وَفَوَائِدُ أُخْرَوِيَّةٌ وَلِهَذَا قَالُوا مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ يَصِلُ بِمُجَرَّدِ الصُّحْبَةِ وَالْخِدْمَةِ وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ صُحْبَةُ الْأَشْرَارِ تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بِالْأَخْيَارِ وَلَا تَصْحَبْ مَعَ اللَّهِ إلَّا بِالْمُوَافَقَةِ وَلَا مَعَ الْخَلْقِ إلَّا بِالْمُنَاصَحَةِ وَلَا مَعَ النَّفْسِ إلَّا بِالْمُخَالَفَةِ وَلَا مَعَ الشَّيْطَانِ إلَّا بِالْعَدَاوَةِ اصْحَبُوا مَعَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تُطِيقُوا فَاصْحَبُوا مَنْ يَصْحَبُ مَعَ اللَّهِ لِتَصِلَكُمْ بَرَكَاتُ صُحْبَتِهِ إلَى اللَّهِ وَمِنْ شَأْنِ الْمَرِيدِ التَّبَاعُدُ عَنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ صُحْبَتَهُمْ سُمٌّ مُجَرَّبٌ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَهُوَ يَنْقُصُ بِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: ٢٨] (لَا لِلْكِبْرِ وَالْعُجْبِ بَلْ لِمَنْعِهِمْ عَنْ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالطَّاعَةِ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ الْمَنْعِ عَنْ صُحْبَةِ مَنْ كَانَتْ إعَانَتُهُ عَلَى الذِّكْرِ وَالطَّاعَةِ الْمُشَارِ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَعْرِفَةِ وَاحِدٍ وَشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ لِيَأْلَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِاَللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَمَنْ انْفَرَدَ عَنْ حِزْبِ الرَّحْمَنِ انْفَرَدَ بِهِ الشَّيْطَانُ وَأَوْقَعَهُ فِيمَا يُؤَدِّي بِهِ إلَى عَذَابِ النِّيرَانِ وَلَفْظُ الْجَمَاعَةِ يَنْصَرِفُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اجْتَمَعَ فِيهِمْ مِنْ جَمِيلِ خِصَالِ الْإِسْلَامِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَتَرَقِّي السَّابِقِينَ مِنْهُمْ إلَى دَرَجَةِ الْإِحْسَانِ وَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُمْ حَتَّى لَوْ اجْتَمَعَتْ التَّقْوَى وَالْإِحْسَانُ فِي وَاحِدٍ كَانَ هُوَ الْجَمَاعَةُ وَالْعَذَابُ فِي مُخَالَفَتِهِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>