للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْكِتَابَةُ فِي اللَّوْحِ أَوْ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ وَحَتَّى لِلتَّدْرِيجِ «وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ» وَهُوَ هَتْكُ سِتْرِ الدِّيَانَةِ وَالْمَيْلُ إلَى الْفَسَادِ وَالِانْبِعَاثُ فِي الْمَعَاصِي وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ شَرٍّ «وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ» دَاعٍ لِدُخُولِهَا «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ» يُكْثِرُ الْكَذِبَ «حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»

مُبَالَغَةً فِي الْكَذِبِ هُوَ كَالصِّدِّيقِ فَيَصْدُقُ وَيَكْذِبُ لِلِاسْتِمْرَارِ فَالْكَذِبُ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ ضَرَرًا وَالصِّدْقُ أَشَدُّهَا نَفْعًا وَلِهَذَا عَلَتْ رُتْبَتُهُ عَلَى رُتْبَةِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ إيمَانٌ وَزِيَادَةٌ قَالَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: ١١٩] وَفِيهِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ حَثٌّ عَلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ وَتَحْذِيرٌ مِنْ الْكَذِبِ فَإِنَّهُ إذَا تَسَاهَلَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْهُ وَعُرِفَ بِهِ.

(تَنْبِيهٌ) : الصِّدْقُ أَحَدُ أَرْكَانِ بَقَاءِ الْعَالَمِ حَتَّى لَوْ تُوُهِّمَ مُرْتَفِعًا لَمَا صَحَّ نِظَامُهُ وَبَقَاؤُهُ وَهُوَ أَصْلُ الْمَحْمُودَاتِ وَرُكْنُ النُّبُوَّاتِ وَنَتِيجَةُ التَّقْوَى وَلَوْلَاهُ لَبَطَلَتْ أَحْكَامُ الشَّرَائِعِ وَالِاتِّصَافُ بِالْكَذِبِ انْسِلَاخٌ مِنْ الْإِنْسَانِيَّةِ لِخُصُوصِيَّةِ الْإِنْسَانِ بِالنُّطْقِ (ت. عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ أَنَّهُ قَالَ قُلْت لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا حَفِظْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ حَفِظْت مِنْهُ «دَعْ» اُتْرُكْ «مَا يَرِيبُك» مَا يُوقِعُك فِي الرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَالتُّهْمَةِ وَأَصْلُهُ قَلَقُ النَّفْسِ وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ فَالتَّوَقِّي عَنْ الشُّبُهَاتِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا فِي الْفَيْضِ «إلَى مَا لَا يَرِيبُك»

يَعْنِي إذَا وَجَدْت نَفْسَك مُضْطَرِبَةً فِي أَمْرٍ فَدَعْهُ وَإِذَا وَجَدْتهَا مُطْمَئِنَّةً فَاسْتَمْسِكْ بِهِ لِأَنَّ اضْطِرَابَ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فِي شَيْءٍ عَلَامَةُ كَوْنِهِ بَاطِلًا وَطُمَأْنِينَتَهُ عَلَامَةُ كَوْنِهِ حَقًّا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةُ) الْقَلْبِ السَّلِيمِ أَيْ مَحَلُّ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْب (وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ) اضْطِرَابٌ وَشَكٌّ فَإِذَا ارْتَابَتْ نَفْسُك فِي شَيْءٍ فَاتْرُكْهُ وَطُمَأْنِينَتُهُ لِشَيْءٍ مُشْعِرٌ بِحَقِّيَّتِهِ وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِذَوِي النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ عَنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ وَوَسَخِ الْعُيُوبِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا فَجَأَ الْقَلْبَ الْكَامِلَ امْتَزَجَ نُورُهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ فَاطْمَأَنَّ وَانْطَفَأَ سِرَاجُ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْكَذِبَ ظُلْمَةٌ وَالظُّلْمَةُ لَا تُمَازِجُ النُّورَ كَذَا فِي الْفَيْضِ، وَنَحْوُهُ فِي الْحَاشِيَةِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْعَقْلِ السَّلِيمِ بَلْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوَسْوِسِينَ فَاللَّازِمُ الْعَمَلُ بِالشَّرْعِ الْمَتِينِ لَا بِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ وَرَيْبِهِ انْتَهَى فَالتَّقْرِيبُ لَيْسَ بِحَسَنٍ وَفِي الْجَامِعِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا وَقَعَ قَوْلُهُ «فَإِنَّ الصِّدْقَ يُنَجِّي» أَيْ أَنَّ فِيهِ النَّجَاةَ وَإِنْ ظَنَّ فِيهِ الْهَلَكَةَ فَإِنْ ارْتَابَتْ النَّفْسُ فِي شَيْءٍ فَدَعْهُ فَإِنَّ نَفْسَ الْكَامِلِ تَطْمَئِنُّ إلَى مَا فِيهِ نَجَاةٌ مِنْ الصِّدْقِ وَتَرْتَابُ فِي الْكَذِبِ فَالِارْتِيَابُ أَمَارَةُ الْحُرْمَةِ وَالِاطْمِئْنَانُ عَلَامَةُ الْحَقِّ فَخُذْ بِهِ وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك فَإِنَّك لَنْ تَجِدَ فَقْدَ شَيْءٍ تَرَكْته لِلَّهِ تَعَالَى» وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ الْوَرَعُ كُلُّهُ فِي تَرْكِ مَا يَرِيبُ إلَى مَا لَا يَرِيبُ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عُمُومٌ يَقْتَضِي أَنَّ الرِّيبَةَ تَقَعُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وَأَنَّ تَرْكَ الرِّيبَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَرَعٌ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَأَصْلٌ فِي الْوَرَعِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْيَقِينِ وَرَاحَةٌ مِنْ ظُلْمِ الشُّكُوكِ وَالْأَوْهَامِ الْمَانِعَةِ لِنُورِ الْيَقِينِ.

(تَنْبِيهٌ) : لَوْ تَأَمَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ لَتَيَقَّنَ اسْتِيعَابَهُ كُلَّ مَا قِيلَ فِي تَجَنُّبِ الشُّبُهَاتِ كَذَا فِي الْفَيْضِ (حَدُّ دُنْيَا حب حك. عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اضْمَنُوا لِي مِنْ أَنْفُسِكُمْ سِتًّا»

أَيْ: الْتَزِمُوا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى فِعْلِ سِتِّ خِصَالٍ «أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ» أَلْتَزِمْ لَكُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ مَعَ السَّابِقِينَ أَوْ مِنْ غَيْرِ تَعْذِيبٍ وَالْمُرَادُ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ اللُّغَوِيُّ عَبَّرَ بِهِ لِتَحْقِيقِ حُصُولِهِ الْوَعْدَ إنْ حُوفِظَ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ «اُصْدُقُوا إذَا حَدَّثْتُمْ»

<<  <  ج: ص:  >  >>