للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وَالتَّشَدُّقُ) التَّوَسُّعُ فِي الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاطٍ وَاحْتِرَازٍ وَقِيلَ هُوَ التَّكَلُّفُ فِي الْكَلَامِ بِمِلْءِ الْفَمِ مِنْ التَّكَبُّرِ وَقِيلَ هُوَ لَيٌّ شِدْقِهِ أَيْ جَانِبِ فَمِهِ لِلتَّفَصُّحِ (مَذْمُومٌ نَاشِئٌ مِنْ الرِّيَاءِ وَحُبِّ الثَّنَاءِ ت عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْغِضُ الْبَلِيغَ» الْفَصِيحَ «مِنْ الرِّجَالِ» وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ الْمُظْهِرَ لِلتَّفَصُّحِ تِيهًا عَلَى الْغَيْرِ وَتَفَاصُحًا وَاسْتِعْلَاءً وَوَسِيلَةً إلَى الِاسْتِقْدَارِ عَلَى تَصْغِيرِ عَظِيمٍ أَوْ تَعْظِيمِ حَقِيرٍ أَوْ بِقَصْدِ تَعْجِيزِ غَيْرِهِ أَوْ تَزْيِينِ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ أَوْ عَكْسِهِ أَوْ إجْلَالِ الْحُكَّامِ وَوَجَاهَتِهِ وَقَبُولِ شَفَاعَتِهِ فَلَا يُنَافِي كَوْنَ الْجَمَالِ فِي اللِّسَانِ وَلَا أَنَّ الْمُرُوءَةَ فِي الْبَيَانِ وَلَا أَنَّهُ زِينَةٌ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَلَا يُنَاقِضُ - {خَلَقَ الإِنْسَانَ} [الرحمن: ٣] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: ٤]- فَمَنْ وَهِمَ فَقَدْ وَهِمَ انْتَهَى مُلَخَّصًا «الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ بِلِسَانِهَا الْكَلَأَ» أَيْ الَّذِي يَتَشَدَّقُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَشَدَّقُ الْبَقَرَةُ وَوَجْهُ الشَّبَهِ إدَارَةُ لِسَانِهِ حَوْلَ أَسْنَانِهِ وَفَمِهِ حَالَ التَّكَلُّمِ كَمَا تَفْعَلُ الْبَقَرَةُ حَالَ الْأَكْلِ وَخَصَّ الْبَقَرَةَ لِأَنَّ سَائِرَ الْبَهَائِمِ يَأْخُذُ النَّبَاتَ بِأَسْنَانِهِ وَالْبَقَرَةُ بِلِسَانِهَا

وَجْهُ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِهَا أَنَّهُمْ كَالْبَقَرَةِ الَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُمَيِّزَ فِي رَعْيِهَا بَيْنَ الرَّطْبِ وَالشَّوْكِ وَالْحُلْوِ وَالْمُرِّ بَلْ تَلُفُّ الْكُلَّ بِلِسَانِهَا لَفًّا فَكَذَا هَؤُلَاءِ لَا يُمَيِّزُونَ فِي مَأْكَلِهِمْ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ - {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: ٤٢]- وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ يَتَجَلَّلُ بِالْجِيمِ فَيَكُونُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْجَلَالَةِ فِي تَنَاوُلِ النَّجَاسَاتِ بِفُحْشِ كَلَامِهِ، وَبُغْضُ اللَّهِ إرَادَةُ عِقَابِهِ وَإِيقَاعِ الْهَوَانِ بِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ مَرَّ بَعْضُ السَّلَفِ بِقَاصٍّ يَدْعُو بِسَجْعٍ فَقَالَ اُدْعُ اللَّهَ تَعَالَى بِلِسَانِ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ لَا بِلِسَانِ الْفَصَاحَةِ وَالِانْطِلَاقِ

قَالَ فِي الْأَذْكَارِ فَيُكْرَهُ التَّقْعِيرُ فِي الْكَلَامِ بِالتَّشَدُّقِ وَتَكَلُّفِ السَّجْعِ وَالْفَصَاحَةِ وَالتَّصَنُّعِ بِالْمُقَدَّمَاتِ الَّتِي يَعْتَادُهَا الْمُتَفَاصِحُونَ وَزَخَارِفِ الْقَوْلِ فَكُلُّهُ مِنْ التَّكَلُّفِ الْمَذْمُومِ وَكَذَا يَجْرِي فِي دَقَائِقِ الْإِعْرَابِ وَاللُّغَةِ الْوَحْشِيَّةِ حَالَ مُخَاطَبَةِ الْعَوَامّ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ لَا تُقَاوِمُ فَصَاحَةُ الذَّاتِ إعْرَابَ الْكَلِمَاتِ أَلَا تَرَى كَيْفَ جَعَلَ الْحَقُّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَفْضَلَ مِنْ أَخِيهِ لِفَصَاحَةِ ذَاتِهِ وَكَانَ هَارُونُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَفْصَحَ مِنْهُ فِي نُطْقِهِ وَبَلَاغَتِهِ كَذَا فِي الْفَيْضِ (م عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» أَيْ الَّذِينَ يَتَعَمَّقُونَ الْفَصَاحَةَ وَالْبَلَاغَةَ فِي الْكَلَامِ «ثَلَاثًا» كَرَّرَهُ ثَلَاثًا تَهْوِيلًا وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْغَائِلَةِ وَتَحْرِيضًا عَلَى التَّيَقُّظِ فِيمَا دُونَهُ أَوْ كَرَّرَهُ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ عَنْ النَّوَوِيِّ فِيهِ كَرَاهَةُ التَّقَعُّرِ وَتَكَلُّفِ الْفَصَاحَةِ وَاسْتِعْمَالِ وَحْشِيِّ اللُّغَةِ وَدَقَائِقِ الْإِعْرَابِ فِي مُخَاطَبَةِ الْعَوَامّ وَعَنْ غَيْرِهِ الْمُرَادُ الْغَالِبُونَ فِي خَوْضِهِمْ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ وَقِيلَ الْمُتَعَنِّتُونَ فِي السُّؤَالِ عَنْ عَوِيصِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَنْدُرُ وُقُوعُهَا وَقِيلَ الْغَالُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَخْرُجُ عَنْ قَوَانِينِ الشَّرْعِ وَيَسْتَرْسِلُ مَعَ الشَّيْطَانِ فِي الْوَسْوَسَةِ.

(تَنْبِيهٌ) عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ إمَّا مَبْحُوثٌ عَنْ دُخُولِهِ فِي دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى اخْتِلَافِ وُجُوهِهَا فَمَطْلُوبٌ بَلْ قَدْ يُفْرَضُ عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَإِمَّا بِدِقَّةِ النَّظَرِ فِي وُجُوهِ الْفُرُوقِ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ بِفَرْقٍ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ مَعَ وُجُودِ وَصْفِ الْجَمْعِ أَوْ بِالْعَكْسِ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقَيْنِ بِوَصْفٍ طَرْدِيٍّ مَثَلًا فَهَذَا الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» وَفِيهِ تَضْيِيعُ الزَّمَانِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَمِثْلُهُ الْإِكْثَارُ مَعَ التَّفْرِيعِ عَلَى مَسْأَلَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ وَهِيَ نَادِرَةُ الْوُقُوعِ فَيَصْرِفُ فِيهَا زَمَانًا وَصَرْفُهُ فِي غَيْرِهَا أَوْلَى سِيَّمَا عِنْدَ لُزُومِ إغْفَالِ مَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ وَأَيْضًا كَمَا لَا يَكُونُ لَهُ شَاهِدٌ فِي عَالَمِ الْحِسِّ كَالسُّؤَالِ عَنْ السَّاعَةِ وَالرُّوحِ وَمُدَّةِ هَذِهِ الْأَمَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَعَنْ بَعْضٍ مِثَالُ التَّنَطُّعِ إكْثَارُ السُّؤَالِ حَتَّى يُفْضِيَ بِالْمَسْئُولِ إلَى الْجَوَابِ بِالْمَنْعِ بَعْدَ أَنْ يُفْتِيَ بِالْإِذْنِ كَمَا يُسْأَلُ عَنْ كَرَاهَةِ شِرَاءِ مَا فِي الْأَسْوَاقِ فَيُجَابُ بِالْجَوَازِ فَإِنْ عَادَ وَقَالَ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ نَهْبٍ أَوْ غَصْبٍ فِي وَقْتٍ كَانَ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ فَيُجَابُ إنْ ثَبَتَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حُرِّمَ وَإِنْ تَرَدَّدَ كُرِهَ أَوْ هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى وَلَوْ

<<  <  ج: ص:  >  >>