للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالْأَحْكَامِ الْمُتَفَقَّهِ فِيهَا فِي أُولَئِكَ فَصَارَ اجْتِهَادُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي مُجَرَّدِ إلْحَاقٍ لِمَسْكُوتٍ عَلَيْهِ بِمَنْطُوقٍ بِهِ مُسَاوٍ لَهُ فِي الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهُوَ مِنْهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَدْلٌ مِنْ النَّظَرِ وَاحْتِيَاطٌ فِي الِاجْتِهَادِ وَرُكُونٌ إلَى الْوُقُوفِ مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى الْمُقْتَدَى بِهِمْ فَكَانَ غَايَةً فِي الْحُسْنِ وَالدِّينِ.

وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْإِقَامَةِ مِنْ السُّنَّةِ فَمَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَعَثَ سَرِيَّةً إلَى خَثْعَمَ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ بِالسُّجُودِ فَأَسْرَعَ فِيهِمْ الْقَتْلَ وَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُمْ نِصْفَ الْعَقْلِ وَقَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَالَ: لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» وَفِي الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُسَاكِنُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَا تُجَامِعُوهُمْ فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أَوْ جَامَعَهُمْ فَهُوَ مِنْهُمْ» .

وَالتَّنْصِيصُ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى الْمَقْصُودِ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ نَظَرٌ سَلِيمٌ وَتَرْجِيحٌ مُسْتَقِيمٌ، وَقَدْ ثَبَتَا فِي الْحِسَانِ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ السِّتَّةِ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا رَحَى الْإِسْلَامِ قَالُوا: وَلَا مُعَارِضَ لَهُمَا لَا نَاسِخَ وَلَا مُخَصِّصَ وَلَا غَيْرَهُمَا وَمُقْتَضَاهُمَا لَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِيهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ كَافٍ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِمَا هَذَا مَعَ اعْتِضَادِهِمَا بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَشَهَادَتِهِمَا لَهُمَا.

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِنْ اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَنْدُوبًا إلَيْهَا غَيْرَ مَفْرُوضَةٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: ١٠٠] نَزَلَتْ حِينَ اشْتِدَادِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ وَجَبَتْ الْهِجْرَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ وَأُمِرُوا بِالِانْتِقَالِ إلَى حَضْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَكُونُوا مَعَهُ فَيَتَعَاوَنُوا وَيَتَظَاهَرُوا؛ لِأَنَّ حِزْبَهُمْ أُمِرَ وَلْيَعْلَمُوا أَمْرَ دِينِهِمْ وَيَتَفَقَّهُوا فِيهِ وَكَانَ عِظَمُ الْخَوْفِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةَ وَأُتْحِفَتْ بِالطَّاعَةِ إلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ارْتَفَعَ وُجُوبُ الْهِجْرَةِ وَعَادَ الْأَمْرُ فِيهَا إلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ فَهُمَا هِجْرَتَانِ فَالْمُنْقَطِعَةُ مِنْهُمَا هِيَ الْفَرْضُ وَالْبَاقِيَةُ هِيَ النَّدْبُ، فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْإِسْنَادَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا إسْنَادُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ وَإِسْنَادُ مُعَاوِيَةَ فِيهِ مَقَالٌ اهـ.

قُلْت: هَاتَانِ الْهِجْرَتَانِ اللَّتَانِ تَضَمَّنَهُمَا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُمَا الْهِجْرَتَانِ اللَّتَانِ انْقَطَعَ فَرْضُهُمَا بِفَتْحِ مَكَّةَ فَالْهِجْرَةُ الْأُولَى هِجْرَةٌ مِنْ الْخَوْفِ عَلَى الدِّينِ وَالنَّفْسِ كَهِجْرَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَصْحَابِهِ الْمَكِّيِّينَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَرِيضَةً لَا يُجْزَى إيمَانٌ دُونَهَا.

وَالثَّانِيَةُ الْهِجْرَةُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَارِهِ الَّتِي اسْتَقَرَّ فِيهَا، فَقَدْ بَايَعَ مِنْ قَصَدَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَبَايَعَ آخَرِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا الْهِجْرَةُ مِنْ أَرْضِ الْكُفْرِ فَهِيَ فَرِيضَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ يَنْقَسِمُ إلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ:

الْأُولَى: الْهِجْرَةُ وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ السَّلَامِ وَكَانَتْ فَرْضًا فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ بَاقِيَةٌ مَفْرُوضَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاَلَّتِي انْقَطَعَتْ بِالْفَتْحِ هِيَ الْقَصْدُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ كَانَ، فَإِنْ بَقِيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَصَى وَيُخْتَلَفُ فِي حَالِهِ وَانْظُرْ بَقِيَّةَ أَقْسَامِ الْهِجْرَةِ فِيهَا.

وَقَالَ فِي الْعَارِضَةِ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَلْحَقُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ سَقَطَتْ الْهِجْرَةُ وَبَقِيَ تَحْرِيمُ الْمُقَامِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَصَمُوا بِالسُّجُودِ لَمْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا وَأَقَامُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ إنَّمَا كَانَ اعْتِصَامُهُمْ فِي الْحَالِ نَعَمْ إنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُ مَنْ بَادَرَ لِلْإِسْلَامِ إذَا رَأَى

<<  <  ج: ص:  >  >>