للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ الظَّاهِرِ فَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّجُلَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ صَرِيحِ الْقَوْلِ بِالطَّلَاقِ أَوْ كِنَايَاتِهِ، وَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ، وَلَا أَرَادَهُ، وَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ حَتَّى تَقْتَرِنَ بِهِ النِّيَّةُ.

قَالَ: بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ أَلْفَاظَ الطَّلَاقِ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ، وَمَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَلَا كِنَايَةٍ (فَأَمَّا الصَّرِيحُ) فَهُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ، وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَيَلْزَمُ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا يُفْتَقَرُ إلَى نِيَّةٍ وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: ظَاهِرٌ، وَمُحْتَمِلٌ.

فَأَمَّا الظَّاهِرُ فَمَا هُوَ فِي الْعُرْفِ طَلَاقٌ مِثْلُ سَرَّحْتُك، وَفَارَقْتُك، وَأَنْتِ حَرَامٌ، وَبَتَّةٌ، وَبَتْلَةٌ، وَبَائِنٌ، وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك، وَكَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَوَهَبْتُك، وَرَدَدْتُك إلَى أَهْلِك، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيُقْضَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ، وَلَا يُقْبَلُ دَعْوَاهُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا الطَّلَاقَ، وَاخْتُلِفَ مَاذَا يَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ فَقِيلَ يَلْزَمُهُ فِيهَا الثَّلَاثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، وَيَنْوِي فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِنْ قَالَ: إنَّهُ أَرَادَ أَلْبَتَّةَ فَلَهُ نِيَّتُهُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقِيلَ يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقِيلَ: رَجْعِيَّةٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، وَبَائِنَةٌ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَقِيلَ ثَلَاثٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، وَوَاحِدَةٌ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا.

وَأَمَّا الْمُحْتَمِلُ فَمِثْلُ اذْهَبِي، وَانْصَرِفِي، وَأَنْتِ حُرَّةٌ، وَالْحَقِي بِأَهْلِك، وَلَسْت لِي بِامْرَأَةٍ، وَلَا نِكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَك، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِطَلَاقٍ فِي الْعُرْفِ فَلَهُ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مُصَدَّقٌ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ طَلَاقًا، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إلَّا بِمَا نَوَاهُ.

وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ اسْقِينِي مَاءً أَوْ نَاوِلِينِي كَذَا، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ الطَّلَاقَ فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ.

أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ طَلَاقٌ قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ حَتَّى يَنْطِقَ بِلَفْظٍ مِنْ صَرِيح الطَّلَاقِ أَوْ كِنَايَتِهِ.

وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ، وَقَصَدَهُ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ، وَلَا مِنْ كِنَايَتِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ.

وَفِي الْمُدَوَّنَةِ كُلُّ كَلَامٍ يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ فَهِيَ بِهِ طَالِقٌ فَإِنْ سَبَقَهُ لِسَانُهُ بِالطَّلَاقِ، وَنَطَقَ بِهِ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ ظَاهِرَةٍ حُكِمَ عَلَيْهِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَدَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِي الْفَتْوَى.

[طَلَاق الهازل]

وَإِنْ طَلَّقَ هَازِلًا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ.

وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إنْ قَامَ دَلِيلٌ أَنَّهُ كَانَ بِهِ هَازِلًا لَمْ يَلْزَمْهُ.

[طَلَاقِ السَّكْرَانِ]

وَفِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ اخْتِلَافٌ قَالَ: ابْنُ رُشْدٍ السَّكْرَانُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:

سَكْرَانُ لَا يَعْرِفُ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَا الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَسَكْرَانُ مُخْتَلِطٌ مَعَهُ بَقِيَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاخْتِلَاطَ مِنْ نَفْسِهِ فَيُخْطِئُ، وَيُصِيبُ، فَأَمَّا السَّكْرَانُ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَا الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ فَلَا اخْتِلَافَ أَنَّهُ كَالْمَجْنُونِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَأَقْوَالِهِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ النَّاسِ، وَأَمَّا السَّكْرَانُ الْمُخْتَلِطُ الَّذِي مَعَهُ بَقِيَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَفْعَالِهِ، وَأَقْوَالِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَجْنُونِ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ، وَلَا يُحَدُّ فِي زِنًا، وَلَا سَرِقَةٍ، وَلَا قَذْفٍ، وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي قَتْلٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ عِتْقٌ، وَلَا طَلَاقٌ، وَلَا بَيْعٌ، وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَجُوزُ.

وَالثَّانِي أَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَيْسَ بِسَكْرَانَ يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ مَعَهُ بَقِيَّةً مِنْ عَقْلِهِ يَدْخُلُ بِهِ فِي جُمْلَةِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ أَرَى أَنْ يُجَازَ عَلَيْهِ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْبَيْعِ، وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>